تعرف فرنسا تمديدا لحالة الطوارئ إلى غاية نهاية شهر فبراير المقبل على الأقل وذلك منذ إعلانها إثر الأحداث الدامية التي هزت مدينتي باريس وسان ـ دوني 13 نونبر الماضي. تضمن حالة الطوارئ توسيع صلاحيات تدخل الشرطة على مستوى التراب الوطني فيما يتعلق بأخذ إجراءات دون اللجوء للقضاء بشأن حق التنقل والإقامة على الخصوص. كما تخول للشرطة القيام بتفتيش المنازل والأفراد دون اللجوء لقرار قضائي. تم تنفيذ حالة الطوارئ خمس مرات في تاريخ فرنسا: مرتين إبان حرب الجزائر حيث همت بالأساس استئصال المقاومة التي خاضتها جبهة التحرير الوطني ما بين 1954 إلى 1962. ثم سنة 1984 على مستوى جزيرة كاليدونيا الجديدة حيث اندلعت مقاومة مسلحة مطالبة بالاستقلال عن فرنسا. وفي سنة 2005 تم إقرار حالة الطوارئ لأزيد من شهر وحذر التجول في مجموعة من المدن بعد انتفاضة الضواحي التي انطلقت بعدما قتلت الشرطة شابين فرنسيين من أصول إفريقية ومغاربية.
تأتي حالة الطوارئ التي تعرفها فرنسا حاليا في سياق يعرف تنامي حدة العنصرية والإسلاموفوبيا داخل المجتمع من جهة وانتشار مقاومة “تحت سياسية” يشكل الإسلام ك”دعوة” أساسا لها. لا تتردد وسائل الإعلام والفاعلون داخل الحقل السياسي في نسب أعمال العنف والقتل التي طالت العشرات الفرنسيين سنة 2015 إلى الإسلام كدين يشكل “خطرا على العلمانية، الجمهورية والثقافة الفرنسية”. الصراع الدائر داخل المجتمع بين فئات اقتصادية وثقافية متباينة يبين يوما بعد يوما تمزقا حقيقيا داخل المجتمع الفرنسي، لكن الأطراف المتصارعة تعرف ماهية سلاح كل طرف. ولعل الأحداث التي عرفتها مدينة أجاكسيو يوم الجمعة 25 دجنبر الفارط تظهر بالملموس طبيعة هذا الصراع.
ففي ليلة الخميس 24 دجنبر أقدم مجموعة من شباب حي هامشي بمدينة أجاكسيو بكورسيكا على إضرام النار من أجل جلب رجال الشرطة والإطفاء. بعد ذلك بدأ مجموعة من هؤلاء الشباب برشق الشرطة بالحجارة مخلفين جرح شرطي وعنصر من رجال الإطفاء. يوم الجمعة تجمهر أزيد من 600 شخص بمركز المدينة، قاموا بمهاجمة الشرطة وانطلقوا في مسيرة نحو الحي الهامشي مرددين شعارات عنصرية : “نحن في بلدنا”، “العرب ارحلوا”. كان غرض المحتجين حسب تصريحات العديد منهم في وسائل الإعلام الانتقام لصالح الشرطي ورجل الإطفاء. بعد الوصول للحي تم اقتحام المسجد، تخريب محتوياته وإحراق عدد من المصاحف.
في حقيقة الأمر، هجوم فرنسيين من أصول غير مغاربية وغير إفريقية على حي هامشي يقطنه أساسا فرنسيون من أصول مغاربية وإفريقية بغاية الانتقام للشرطي ورجل المطافئ الذي تم الاعتداء عليهم يخفي في العمق صراعا مجتمعيا كبيرا. أطراف هذا الصراع هم من جهة فئات غنية ومتوسطة أو تعيش أزمة اقتصادية تنذر بتدني وضعها الاجتماعي ومن جهة أخرى فئات فقيرة تعيش في الهامش وتنتمي غالبيتها للجيلين الثاني والثالث من هجرات العمال المغاربيين أو الهجرات الإفريقية.
ليس هجوم شباب الضواحي الفقيرة على الشرطة هو ما يشكل حدثا في أجاكسيو، كما يتم تقديم ذلك على مستوى الإعلام المدافع عن مصالح وصورة فئات محددة. فالجميع يعلم هنا تاريخ المواجهات بين الشرطة وشباب الضواحي والعداء المستمر منذ الستينات. فالشرطة تقتل بمعدل 3 أشخاص سنويا داخل الضواحي الفرنسية، والعنف تطبعه العنصيرية حيث يكون ضحية القتل شباب من أصول مغاربية وأفريقية مما يساهم في انطلاق الانتفاضات كما كان الشأن في 2005 بعد قتل كل من “زياد” و”بونا” بعد مداهمة الشرطة لحيهم. فالشرطة تشكل في وجدان شباب الضواحي رمزا للعنف والعنصرية والانسحاب التدريجي لمؤسسات الدولة الاجتماعية والثقافية وتعويضها بمقاربة قائمة على العنف والأمن، كما ترمز لشعارات أحزاب متطرفة كالجبهة الوطنية المشددة على المقاربة الأمنية والمطالبة باستئصال الفرنسيين ذوا الأصول الأجنبية، أي أصول غير الأوربية.
أما الهجوم على المسجد الذي ينضاف لعشرات أعمال العنف العنصرية التي تطال المسلمين كما سجلته رابطة مناهضة الإسلاموفوبيا بفرنسا، فهو يندرج في وعي جماعي كون الإسلام صار يلعب في فرنسا دور خطاب يساهم في تجميع فئات محددة اجتماعيا ـ أي فئات فقيرة ماديا وتعيش إقصاء ثقافيا واضطهادا إثنيا وعنصريا ـ. هذا الهجوم يندرج تاريخيا في سلسلة من الأفعال (les actes) المرتبطة بالقانون (قانون منع الحجاب في المدارس مثلا)، بالسياسة الداخلية (منع مشاركة المهاجرين في الانتخابات المحلية مثلا)، بالسياسة الخارجية (مشاركة الجيوش الفرنسية في سلسلة من الحروب على دول كسوريا وليبيا ومواقف إيجابية من سياسات الاستيطان والتقتيل الإسرائيلي مثلا)، وبالدولة كآلية لتنظيم المجتمع وضمان توزيع الرساميل الاجتماعية والمساواة (انسحاب الدولة الاجتماعية من الأحياء الفقيرة، فشل سياسات السكن ومناهضة الفوارق داخل المدن، فشل سياسات الإدماج الاقتصادي للفرنسيين القادمين من أصول فقيرة وأجنبية).
أمام هذا الوضع الذي يعرف ردود أفعال عنيفة تلجأ إلى حرب شوارع حقيقية ـ تختفي وراء ذرائع كالدولة الإسلامية أو تأسيس الخلافة والانتقام للمسلمين ـ كما كان الحال في الهجوم على شارلي إيبدو وهجومات 13 نونبر 2015، فإن واقع الأمر بفرنسا يسير نحو أسلمة الراديكالية والمعارضة الاجتماعية وليس إلى بروز حركات إسلامية متشددة كما يتم تقديم ذلك عبر الخطابات السائدة. فالراديكالية نتاج لواقع مجتمعي يطبعه العنف والإقصاء الاقتصاديين والثقافيين، والإسلام خطاب أصبح يوحد أكثر من غيره (الأيديولوجية الشيوعية أو الوطنية) وسط الفئات المهمشة.
التعليقات على باريس: أسلمة الراديكالية مغلقة