فاجأ الروائي المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون قراءه وأصدقاءه برسالة بالفرنسية نشرها أمس في موقع “فرانس انتير” يعلن فيها شفاءه من مرض كورونا، بعد قضائه فترة في الحجر الصحي تحت رعاية طبية.
لم ينتشر خبر إصابة صاحب “ليلة القدر” بفيروس كوفيد 19 بتاتاً بل ظل سرياً، فهو كما بدا، لم يُعلم أحداً بالعدوى، لئلا يحدث إرباكاً في حياة أسرته أولاً، وكيلا يجعل من خبر إصابته وحجره مادة إعلامية تتبادلها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. لكنه ما إن تعافى واجتاز فترة الحجر متخلصاً تماماً من آثار المرض، كتب هذه الرسالة واختار لها عنواناً ملتبساً هو “رسالة إلى الصديق البعيد”. من تراه يكون هذا الصديق البعيد الذي لم يسمّه؟ هل هو صديق أم صديقة؟
في هذه الرسالة يرسم الكاتب صورة هذا الصديق بألفة تامة، ويسترجع معه ذكريات جميلة ولحظات من الفرح قضياها معاً في المغرب. ويتحدث حتى عن حياة الزهو التي عاشاها، بين المطاعم والمعارض. لكنّ الرسالة لا تخلو من الألم الذي عاناه في عزلته، مواجهاً الخطر والخوف من المجهول، ويعترف فيها كيف أن الجمال والفن والصداقة كانت هي منطلقه للهروب من لحظات الحجر المريرة . ويعبر عن الأمر الإيجابي الذي تركه فيه المرض وشفاؤه منه.
الطاهر بن جلون يبلغ السادسة والسبعين من عمره، يعيش بين باريس والمغرب، ينتمي إلى الجيل الثاني من الكتّاب المغاربة الفرنكوفونيين، حاز جائزة غونكور الفرنسية عن روايته “ليلة القدر”. شاعر وناقد وباحث في علم الاجتماع، كتب طوال سنوات في جريدة “لوموند” الفرنسية، أعماله ترجمت إلى لغات عدة. من أعماله: “أقصى درجات العزلة”، “حرودة”، “طفل الرمال”، “يوم صامت في طنجة”، “الغياب المبهر للضوء” وسواها. هنا ترجمة للرسالة:
“منذ أن حُجرنا، كل واحد في بلاد، أشعر بأن الوقت الذي كان يجمعنا، يفصل بيننا الآن.
ولئن انقطعت أخباري خلال أسبوعين، فلأنني كنت قد أصبت بالعدوى، وإني الآن لسعيد في أن أعلن لك أنني شفيت. أجل كنت أنتمي إلى شريحة الـ95 في المئة من الأشخاص الذين أصابهم فيروس كورونا، والذين حالفهم الحظ في القضاء عليه.
كان صمتي مجبولاً بالقلق والأمل. ولم أشأ أن أضفي مزيداً من الاضطراب على الكرب الذي كنت تعيشه.
بدأت العدوى كحال رشح بسيط، ألم في الرأس، فقدان حاسّتي الشم والمذاق، ثم حل عليّ تعب مضن. عزلت نفسي في البيت، لم أخرج بتاتاً، لم أر أحداً، ورحت أنتظر. اتصلت بأصدقائنا المشتركين لأعلمهم بأن العيد، كل الأعياد أجّلت. عشت أوقاتاً من العزلة الشديدة، وخلالها حاولت جاهداً ألا أرى صورتي في المستقبل. لكنني تمكنت عبر المثابرة، من أن أتعلق بالفرح، بفكرة السعادة، بالأوقات الرائعة التي حملتنا نحو صداقة جميلة.
كنت متعباً ولكن غير مهدود. استمعت إلى جون كولتران وطرت على أجنحة عبقريته. ثم انتقلت إلى شارلي باركر وسمحت لنفسي بأن أمضي إلى ليله، “ليل في تونس”. سافرت، اندفعت بقوة، وفكرت بك، فكرت بنا. وكم ساعدتني مخيلتي في الابتعاد عن المرض. وفي أعماق نفسي، صارعت بصمت، لأمنع الفيروس من أن يصيب رئتيّ.
فتحت من ثمّ كتاباً كبيراً عن هنري ماتيس، ووجدت نفسي في طنجة عام 1912 برفقة زهرة التي كانت موديلاً له. دخلت رؤيا الفردوس كما رسمها في لوحته “المغاربة”، لوحة ملغزة أعجبنا بها كثيراً عندما شاهدناها معاً في معرض له في مركز بوبور، كان يوماً من مايو (أيار) 2012.
الفن، الجمال، الصداقة، هذه كلها ساعدتني في القضاء على هاجس الموت. نعم، أعترف بأنني شعرت بالموت يطوف حول البيت. لكنني قاومت متمسكاً بطقوس حياتي. كنت أحلق ذقني كل يوم، على عادتي، أغتسل، وأرتدي ثياباً ذات ألوان وكأنني ذاهب للألتقاء بك من أجل غداء في أحد مطاعمنا المفضلة. وكنت أجلس إلى طاولتي محاولاً المضي في العمل.
اكتشفت أن الحجر ليس مناسباً للكتابة. الوقت، الممتد كثيراً، يحيط بي مثل السراب، مانعاً إياي من الحركة. هكذا، كنت أنهض مستعيدأ ذكرياتنا المعاندة. ذكريات زمن الحبور وخلو البال.
منذ أن شفيت، أشعر بأن هذه التجربة منحتني طاقة جديدة، إنني حي، وكما تعلم، أنني أحب الحياة. أنظر إلى السماء والشمس بطريقة أخرى، إنني أشد انتباهاً إلى زقزقة العصافير، وإلى صحة الآخرين، إلى أقاربي وإلى جيراني أيضاً. سأضع كفوفاً وكمامة قبل أن أذهب لشراء حاجياتي الصغيرة، وسأمر على جارتي في الطابق الثاني، المسنّة جداً، التي تحيا وحيدة، وآخذ منها لائحة مشترياتها. ثم سأنتظر أن تُفتح الحدود كي نلتقي معاً”.
* أندبندت عربية