حكيم وردي
عضو نادي قضاة المغرب

أكره أغلب القضاة على التعايش مع تمزق وجودي صارخ، نابع من مفارقات وضعهم الاعتباري داخل محيط مجتمعي معاد يتهمهم بمراكمة الثروة وإساءة استعمال السلطة، وبين واقع تصريف العدالة في ظروف قاسية موسومة بكثرة تردد المغاربة على المحاكم وإغراق القضاة بالمشاكل والأقضية وإلزامهم باسم النجاعة والمردودية على إيجاد حل لها في آجال قياسية ( أكثر من 3 ملايين قضية سنويا لحوالي 4200 قاض وقاضية)، مما أورث أغلبهم أمراضا مزمنة، وشروخا أسرية، دون أن يترجم مجهودهم في تحقيق السلم القانوني إلى تعويضات مادية تحفظ لهم الكرامة وتقيهم شر الفاقة.

يعلم المطلع أن أجر القاضي المغربي هو الأهزل بالمقارنة مع نظيره في العديد من الدول ليس الأوروبية فقط ولكن حتى العربية، وأن العديد منهم خر صريع السرطانات بعدما عجز عن توفير ثمن الأدوية، أما الذين أفنوا زهرة شبابهم في تحرير الأحكام طيلة الأيام والشهور والأعوام فغالبا ما ينتهي بهم المشوار مقوسي الضهور، ضامري الأبصار، بكآبة مزمنة ومستويات محترمة في درجات السكري والضغط.

وإذا كان لا يتصور أن يغتني المرء بارتداء جبة القضاء، فإنه ليس مقبولا أن يحول ضيق الأجر بينه وبين الكفايات الضرورية في الحياة الشريفة، فقروض السكن، والسيارة، وأقساط دراسة الأبناء تجعل القاضي العفيف يترقب رؤية هلال مطلع شهر جديد بحسرة في القلب وفراغ في الجيب.

والذي يدعو إلى الاستغراب قبل الاستنكار أنك قد تجد مسؤولا قضائيا في محكمة استثنائية بمهام استثنائية ولكن بتعويضات مخجلة لا تكاد تميزه عن الوضعية المادية للقاضي المتقاعد. أما الذين سينالون بترقيتهم النظامية الدرجة الاستثنائية ببلوغ سن 45 سنة فسيكتب عليهم العمل بنفس الأجر لأكثر من عشرين سنة دون أن يكون لهم أمل في الزيادة أو التحفيز.

لقد احتمل أغلب القضاة هذا الوضع المأساوي من منطلق إيمانهم بسمو مهنتهم عن أي تعويض مادي يمكن أن يوازي حجم المسؤوليات الملقاة على كاهلم في الدنيا والآخرة، فالعدل وظيفة إلاهية، وتصريفه في الأرض نيابة عن الإمام شرف ما بعده شرف، كما أنهم كمواطنين واعين بإكراهات الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تعكسها الأجور المتدنية في العديد من الوظائف الحكومية، علما أنه من الناحية الموضوعية لا يمكن مقارنة العمل القضائي بغيره من الوظائف. لذلك كان المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني رضوان الله عليه كثيرا ما يشدد في توجيهاته السديدة للقضاة إلى أن مهامهم أكبر وأهم من أن يغطيها أجر مستحق.

ولولا الأوامر الملكية للحكومة في خطاب 20 غشت 2009 بوجوب تحسين الوضعية المادية للقضاة لما شهدت أجورهم بعض التحسن. فقد أظهرت السلطة التنفيذية شحا غير مبرر في الاستجابة لمتطلبات الفاعل الأساسي في إنتاج العدالة رغم أن كلفة أجور 4000 قاض لا تشكل عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة.

وإذا كان الاستقلال الوظيفي للقضاء كسلطة دستورية أمر يجعلنا في مصاف الدول العريقة في الديمقراطية، فإن هذا الاستقلال قد يكون في إحدى جوانبه صوريا متى ظل مرتهنا في جانبه المادي إلى سلطة تنفيذية لا تعتبره ذا أولوية، لاسيما بعد استقلال النيابة العامة عن سلطة وزير العدل وما خلفه ذلك من حسرة لدى العديد من الساسة بل كادت الميزانية الأولى للسلطة القضائية أن تتعثر في البرلمان كنتيجة لقراءات منفلتة عن تنصيصات القوانين التنظيمية وقرارات المحكمة الدستورية.

ولعل ما يزكي هذا البرود العاطفي للسلطة التنفيذية اتجاه الاستقلال المالي للسلطة القضائية، هو مرور أكثر من سنتين على صدور القانونين التنظيميين للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وللقضاء دون أن تجد المراسيم التنفيذية للتعويض عن أيام الديمومة والمسؤولية والتأطير طريقها إلى الوجود، علما أن كلفتها المادية هزيلة لا تحتاج إلى مداخيل استثنائية في الميزانية.

لقد ظل القضاة يترقبون بقلق ظهور مؤشرات توحي بوجود إرادة حكومية للانصاف، وانقطعت عنهم الأخبار حتى بات أغلبهم يعتقد أن ما نصت عليه القوانين التنظيمية في باب التعويضات لا تعدو أن تكون نصوصا استئناسية، في الوقت الذي ارتفعت وثيرة أدائهم في المحاكم، واضطرار أغلبهم للسهر إلى ساعات متأخرة داخل القاعات وتحويل منازلهم إلى فضاء لمواصلة تحرير الملفات، ناهيك عن التواجد اليومي طيلة السنة لقضاة النيابة العامة والتحقيق داخل المحاكم عطلا وطنية وأعيادا دينية، أما المسؤولين فأغلبهم لا يتوفر على سكن وظيفي ولا تعويض حقيقي عن مهامهم.

لذلك كان لا بد لنادي قضاة المغرب باعتباره الجمعية الأصدق التصاقا بهموم قضاة المنافي والتخوم، والمعبر الوفي للقضاة الشباب الأكثر تضررا من سوء الأجور ، أن يأخذ كعادته مبادرة إخراج ملف التعويضات القانونية من ثلاجة النسيان، وأن يدكر من يجب بما يجب من احترام للقانون من طرف السلطة التنفيذية التي لا يمكنها أن تتذرع بغياب بند في الميزانية، أو ضعف في المداخيل للإفراج عن تعويضات مهما بلغ حجمها فلن يصل إلى خمسة في المائة مما يحكم به القضاة يوميا من غرامات، وما تحصله صناديق المحاكم من مداخيل.

إن للعدالة ثمن، وإن للقضاة أزواج وأبناء وآباء وأمهات، لا يرحمهم المتقاضون في المحاكم بكثرة ما يتوجهون لهم به من مشاكل وصراعات، متلما تنهش صورتهم التمثلات القدحية والجاهز من الكليشيهات، ولكن لا أحد يتصور عجز أجورهم عن الوفاء بالالتزامات، فقط تحسبهم أغنياء من التعفف.

التعليقات على القاضي حكيم وردي يكتب..”الفقر والعدالة” مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها

بلغت هولندا نهائي كأس ديفيس لكرة المضرب للمرة الأولى في تاريخها، بتغلبها على ألمانيا (2-0)…