منذ وصوله إلى البيت الأبيض كرئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية، يحمل الرقم 45، ظل دونالد ترامب يتصرف وكأن الحملة الانتخابية، التي قادته إلى حيث هو الآن، لم تنته بعد، حيث توالت ذات طريقته في التصريح والتعاطي مع قضايا العالم وإشكالاته، إلى أن وصل إلى آخر إبداعاته في حق الشعب الفلسطيني ومعه القانون الدولي الذي أرساه المجتمع الدولي سنة 1945 بإنشاء منظمة الأمم المتحدة، بعد حربين عالميتين طاحنتين من حيث حجم الدمار والقتلى والجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل وسباق التسلح و….
وحتى وهو في البيت الأبيض لم يخرج دونالد ترامب من تقمصه لأدواره السابقة في تلفزات الواقع حيث ترعرع وأدمنها بقوة، بحيث لم يخرج بعد من جلباب الأستوديوهات التلفزية، وهذا ما تعكسه وقفاته أو جلساته أمام الكاميرات وهو في البيت الأبيض يوقع بقلمه قرارات ظالمة لشعوب لم يكن يعرفها قبل اقتحامه للبيت الأبيض، أو يستقبل من يشاء، أو في زيارات هنا وهناك داخل بلاده أو خارجها في ضيافة مسؤولين عبر خريطة العالم. وآخر ما اقترفه ترسيم إلحاق منطقة الجولان السورية بإسرائيل، وقبله الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ضدا على قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
من يتابع خرجات الرئيس 45 للولايات المتحدة الأمريكية، لابد وأن يتذكر حقبة من تاريخ البلاد، وخاصة زمن الكوبوي ( Cowboy / رعاة البقر) الذي خلدته السينما الأمريكية منذ عقود، ولها أبطالها ذوو الشهرة العالمية الواسعة والموسيقى الخاصة بها، كما أن لها عشاق لهذا النوع من الأفلام، وهم كثيرون عبر العالم ومنهم رؤساء دول ومسؤولون لم يخفوا ذلك عن العالم، ومن ضمنهم مسؤولون أمريكيون افتتنوا بالكوبوي ومارسوه بعد أن استلهموا قواعده، التي قام عليها الكوبوي ومنهم هنري كيسينجر، أحد أشهر وزراء الخارجية الأمريكان ومهندس تركيع العرب أمام إسرائيل، ومنهم أيضا الممثل السينمائي كلينت إيستود الذي انتقل من الشاشة الكبيرة إلى تقلد مهام على رأس إحدى الولايات الأمريكية، وقبله تقلد رونالد ريغن شؤون البيت الأبيض واشتهر بالعدوان الذي أعطى أوامره ضد ليبيا في عهد القدافي، وقد أدى ريغن أدوارا قليلة في أفلام لرعاة البقر…
دونالد ترامب عاد، مع سبق الإصرار والترصد، إلى خروقاته للقانون الدولي حين وقع مرسوما أمريكيا، يشرعن قضية احتلال قال فيها القانون الدولي، عبر قرارات واضحة ومشروعة للأمم المتحدة بخصوص جزء لا يتجزأ من أرض سوريا احتلتها إسرائيل سنة 1967، وضمتها خارج القانون الدولي ولم تعترف بها الشرعية الدولية أبدا، لكن دونالد ترامب أعطى لنفسه حق الاعتراف بتسويغ فعل غير مشروع وممنوع بالقانون الدولي، في خرق واضح للشرعية الدولية وتحدي صلِف للأمم المتحدة ومن خلالها للعالم أجمع وللشعب السوري الذي لم يخرج بعدُ من مأساته المتفجرة منذ 2011. ألميكفِ ترامب ما عاناه السوريون ليضيف خنجره إلى خاصرة سوريا بإسباغه “شرعيته الخاصة والمشبوهة”على اغتصاب جزء من مرتفعات الجولان، الجزء الذي لا يتجزأ من تراب سوريا.
إن مرسوم ترامب الذي يُشرعن ضم إسرائيل للجولان، فضلا عن خرقه للشرعية الدولية،هو مصادرة لحق الشعب السوري في وحدة أراضيه وفي استرجاع جزء منها يُقره القانون الدولي وقرارات عدة للأمم المتحدة وضمنها مجلس الأمن الدولي.
إن ما قام به ترامب هو انتهاز للفرصة التي يتيحها له الوضع الدولي الراهن المُتسم بكثير من الفوضى التي من مظاهرها إضعاف الأمم المتحدة وتجريدها من السلط والاختصاصات التي يخولها لها ميثاقها، الذي اعتُمِد بعد حربين عالميتين مدمرتين وداميتين، أعادتا صياغة خارطة العالم وترسيمها عبر عقود باتفاقيات وتسويات متنوعة.
وما يقوم به الرئيس الأمريكي الحالي مناقض تماما وبشكل صارخ للشرعية الدولية ولحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وحماية حقوقها وحدودها وسيادتها.
بيني وبينكم ألا يذكركم Donald Trump بشخصية “ليك إي ليك” Lucky Lukeالذي يسبق ظله في إطلاق النار، على خطى الكوبوي الشرير الذي يبادر دائما إلىإطلاق النار( والشرّ حسب الأسطورة هو الفشل في مقاومة الغواية، وفقدان السيطرةعلى النفس). والشرير أيضا، بهذا المنطق، هو الذي يفقد السيطرة على نفسه، ويطلقالنار لأنه يحب الدم، حيث أن الكوبوي لا يصير عالميا إلا بعد الركوب على حصانه وقتلالهنود الحمر. وتصرفات دونالد ترامب محاكاة لشخصية Lucky Luke، لكن بشكل مدمر يفتح أبواب الجحيم على العالم قاطبة. لكن ما يهم ترامب حاليا هو دعم حليفه وشريكه بنيامين نتنياهو في انتخابات الكنيسيت المقبلة، ومواصلة شراكته معه في تطبيق المخططات الأمريكية في المنطقة على حساب شعوبها وثرواتها التي فوق الأرض وتحتها.
وختاما يجدر التذكير أن إضعاف أدوار الأمم المتحدة، التي يتحداها ترامب يوميا بقراراته الخرقاء، قديم حيث يعود إلى أكثر من عقدين من الزمن، ويتم حاليا جني ثمرات تهميش الأمم المتحدة وتجريدها من مهامها في حفظ السلم والأمن الدوليين، وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط التي “طحنها” ترامب بقراراته التي تهم وضع القدس والجولان، تتحمل فيه دول المنطقة وحكامها مسؤولية مباشرة سهلت على ترامب تنفيذ مؤامراته التي انطلقت بإصرار وترصد. ثم إن المشكلة الفلسطينية ازدادت معاناتهاخلال العقود الأخيرة عندما سُلب الملف من الأمم المتحدة وتحول إلى طاولة المفاوضاتتحت إشراف لجنة رباعية ثم إلى مفاوضات ثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين أي بينالضحية والجلاد، بين الذئب والحمل، بين شعب أعزل وأحد أقوى جيوش العالم تسليحاوأكثرهم بطشا وحشية وخرقا وتجاوزا للقانون الدولي الإنساني دون محاسبة ومعإفلات منهجي من المساءلة، وتوفير حماية دبلوماسية أمريكية ممنهجة ومستدامة ( وآخر الجرائم هي القتل المباشر للمتظاهرين الفلسطينيين العُزل المشاركين في مسيرات العودة، التي أقفلت سنتها الأولى).
وبالرجوع إلى قرارات مجلس الأمن لحل النزاع وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه نجد تراكما للقرارات في غياب أي تنفيذ، بل تنصل إسرائيلي منهجي يتحدى العالم ويحضى بتغطية أمريكية دائمة، ونجد القرار رقم 242 الصادر في سنة 1967 كنتيجة لاحتلال إسرائيل الضفة الغربية ومرتفعات الجولان وغزة وسيناء حيث ورد فيهضرورة انسحاب القوات المحتلة من الأراضي التي احتلتها إبان عدوان 1967.
وما دمنا بصدد مرسوم ترامب الذي يُشرعِن احتلال الجولان من لدن إسرائيل، ويعد دعما مباشرا لبنيامين نتنياهو عشية انتخابات إسرائيلية قريبة، يجدر التذكير بالقراررقم 497 بتاريخ 17 دجنبر 1981، الذي يدعو إسرائيل إلى إلغاء ضم مرتفعاتالجولان بحكم الأمر الواقع. فالقرار أشار بصورة لا لبس فيها إلى عدم الاعتراف بضمإسرائيل للجولان السوري، ودعا إسرائيل إلى إلغاء قرار ضم الجولان. لذا فإن مرسوم ترامب خرق صارخ للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة مما يستدعي محاسبته ومساءلته وترتيب الآثار القانونية الدولية ذات الصلة به.