محمد الإدريسي

 

متواترٌ في التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها كيف يسعى المقهور لاتباع سلوك القاهر، فالمغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب كما يقول ابن خلدون في مقدمته.

والغالب والمغلوب ثنائية عامة، تجدها في الأسرة والحي والدولة، وبين الدول، وبين الأمم الكبرى والثقافات.. وربما بين كل اثنين، يقول المثل المغربي: “إذا شفتي جوج مفاهمين، عرف أن الدرك على واحد”، الواحد المغلوب المتبع للغالب!

هكذا يظهر عند الغالب سلوك أصلي ما، فيليه التقليد عند المغلوب في صور متنوعة، لكنها في الغالب سطحية، هامشية، فجة، غير متقنة، ككل ما استنبت في غير تربته وجوّه الخاص، يُتَّبع بصور تحتفظ بالشكل وتحرف المضمون، أو تحتفظ بالمضمون وتحرّف الشكل، أو تبدعه في شكل مسخٍ أفجّ وأقبح، ثم يتم تعميم السلوك ليشمل مجالات أوسع، فتتولد السلطوية في كل ركن من البيت السلطوي، وتفسد إدارة كل مؤسسة في الدولة الفاسدِ كبارها، ويجلد كل مجلود من هو تحته، بعد أن صار ظهره “رطب من كرشو” بسوط الجلاد الذي فوقه.

بهذا الشكل تغدو الدولة صورةً كبيرة وكاشفة لأفعال مسيّريها وأفكارهم، فيظهر الفساد في برها وبحرها بسبب فسادهم، وتظهر لنا آلاف وآلاف النسخ المشوهة للديكتاتور، ومثلها للفاسد، والمفسد، والمرتشي، والمتسلط، والعاهر، والمفلت من العقاب، والمتاجر بالأموال والأعراض، والمقامر على مستقبل الأمة، وهلم جرا وشرا وكيدا ومكرا.

فمتى رأى المراقب اليقظ والباحث المنتبه فساد القاهرين وإفسادهم، علم أن فساد المقهورين نتيجة لازمة ولو بعد حين، فلا يعود للدهشة حين ظهوره للعيان معنى ولا حاجة.

الفساد، الارتشاء، الدعارة، النهب، العنف، الاغتصاب… كلها صور لسياق عام وشامل تلعب فيه ثنائية القاهر والمقهور دورا مهما.

نعم، والاغتصاب! .. فحادثة اعتداء الحافلة مثلا والتي كانت ضحيتها فتاة نهش جسدها هؤلاء الفتيان الذين قبض عليهم، ليست حادثة معزولة عن سياق كلي نعيشه، وهؤلاء الأطفال المغتصبين لم ينزلوا علينا من من السماء لا نعلم لهم أصلا، ولا فصلا، ولا بيتا، ولا نظاما يحكمهم ويسيرهم، ويعلن نفسه ضامنا لتعليمهم وصحتهم.

هؤلاء أبناء منظومة قهر كبيرة، وهم مدركون لآلياتها بشكل واع أو غير واع، لذلك يعيدون إنتاجها بكل شر وبؤس، نعم بكل شر، فنحن أبعد من أن نبرئهم أو نبرر جريمتهم، لكننا أبعد أكثر من ألا نرى آثار الجلد على ظهورهم قبل أن يجلدوا من ظنوه دونهم!

ثم ما الاغتصاب؟

إنه أكبر من حصره في عملية جنسية، بل قد لا يكون جنسيا في الأصل، يقول عالم النفس دانييل زوكير: “الاغتصاب محاولة تحكم وضبط لضحية ما، يريد المغتصب باستغلالها أن يستعرض قوته وفحولته”. تصير العملية الجنسية إذن مجرد وسيلة لهدف أعمق: ممارسة القهر.

عالمة النفس الاكلنيكي مارلين فوشي تصنف المغتصبين إلى أصناف أهمها: الباحثين عن ممارسة السلطة على الغير بالقهر والتحكم.

لويك ڤيليريو المختص في سيكولوجيا الجريمة يقول: “الاغتصاب اعتداء، المعتدي يختار هنا المجال الجنسي، لكن الغاية هي البحث عن ممارسة الهيمنة والقوة وإثبات القدرة على القضاء على مقاومة الآخر”.

الاغتصاب في كنهه إذن عملية سلطوية، هدفها التحكم والإخضاع والإهانة وإثبات القوة، إنه في عمقه: بحث عن السلطة وممارسة للتسلط.

سيلاحظ القارئ هذا التشابه بين المصطلحات المستعملة في التوصيفات النفسية المرتبطة بالاغتصاب، وتلك الخاصة بالمعجم السلطوي، وهذا مؤشر جاد على التشابك بين الخاص والعام، وبين فعل المواطن وفعل السلطة، وعلى السلوك ذي الأصل الواحد، رغم تستره تحت واجهات مختلفة ومتباينة.

ويحق لنا التساؤل الآن: بما أن المجال الجنسي هو مجرد وسيلة يختارها المغتصب للتعبير عن رغبته السلطوية في الإخضاع، ألا يُعتبر إذن من المغتصبين: من اختار المجال السياسي أو الاقتصادي أو الأمني أو الإعلامي، للتعبير عن نفس الرغبة في فرض سلطته الخاصة وهيمنته التامة ولإسماع صوته وحده؟
أوليس تحركه نفس آليات العمل النفسية للمغتصب الجنسي؟

وبما أن السلطة السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية يمارسها لدينا نخبة قاهرة، ألا يعد الاغتصاب الجنسي بهذا الاعتبار مجرد صورة هامشية لمتسلطين صغار يمارسون قهرهم على من دونهم في القوة، اتباعا .. وولاءً .. وتقليدا ـ ولو بشكل غير واع ولا شعوري ـ لمنظومة اغتصاب سلطوية كبيرة وقاهرة، تحاول التحكم وضبط المجتمع وحركاته وقواه الحية، مستعرضة قدرتها على ذلك في كافة المجالات؟

ألا يغدو الاغتصاب الجنسي بهذا المعنى، ترجمة جسدية مباشرة، لاغتصاب سلطوي سياسي واقتصادي وإعلامي يمارس على شعب مقهور، فيمارسه أبناؤه على بعضهم بأوضح وأفضح وأفج أشكاله المرئية القبيحة المباشرة، بعد أن تم التطبيع مع أشكاله وصيغه الأخرى!

إن المشهد الإجرامي والشرير لهؤلاء المغتصبين وهم ينهشون جسد الفتاة الضحية، يجب أن ينظر إليه كبثرة جلدية ذات قيح، على جسد شخص مصاب بمرض فيروسي قاتل، ليست البثرة إلا عرضا من أعراضه!

البثرة قبيحة ومقززة ومؤلمة ويجب علاجها، نعم!
لكن من ينظر إلى خطر الڤيروس الذي ينخر في الأعماق؟

التعليقات على الاغتصاب عملية سلطوية مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…