مصطفى الفن

IMG_2242

عندما ضاق الراحل الحسن الثاني رحمه الله درعا بالمحيطين به وبفريق عمله وبفئة مسؤولين يتجهون بالبلد نحو ما أسماه “السكتة القلبية” فإنه خرج على الملأ ليقول إنه في حاجة إلى ” أولاد الناس” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وفعلا، فالمغاربة ليسوا ليبراليين ولا يساريين ولا إسلاميين ولا غير ذلك.

المغاربة صنفان لا ثالث لهما: إما أنك “ولد الناس” وإما أنك لست كذلك.

لكن ماذا وقع بعد صرخة الحسن الثاني الذي أراد الاشتغال مع فريق عمل من “أولاد الناس”؟

لا شيء سوى أن المحيطين به وقتها اختاروا “أولاد الناس” ليس الذين أرادهم جلالته وإنما على مقاس هؤلاء المحيطين ل”حكمة” لا يعملها إلا هم.

وهكذا شرع محيط الحسن الثاني في تفريخ الجمعيات ذات “المنفعة الخاصة” بأسماء الجبال والهضاب والسهول والوديان، ووضعوا فيها أقاربهم وأبناءهم وزوجاتهم وأصدقاءهم وصديقاتهم، أما البحث عن “أولاد الناس” فقد كان كل هذا هو آخر الهم.

صحيح أن هذا السيناريو وقع بالأمس وأصبح جزءا من الماضي، لكن من الضروري التذكير به لأن بعض تجليات هذا الماضي لازالت مستمرة في الحاضر.

وأنا أذكر بهذا هذا لأن هناك “أطرافا نافذة”، بحسن نية أو ربما لأن هذا هو مبلغها من العلم، تريد أن تلعب دور “الناصح” في اتجاه أن يدار البلد كما تدار أي مقاولة من القطاع الخاص الذي قدموه بين يدي الملك محمد السادس على أنه قطاع ناجح.

وما الأمر كذلك.

نعم قد يكون جزء من القطاع الخاص بهذا النجاح الذي تحدث عنه خطاب العرش الأخير لكن العارفين بخبايا الأمور لم يقولوا لمن يهمه الأمر “إن القطاع الخاص الناجح هو ذلك الجزء المحظوظ الذي ازداد وفي فمه ملعقة من ذهب وجاه”.

أو دعوني أقول بصيغة أخرى أكثر وضوحا. إن الجزء الناجح من القطاع الخاص هو ذاك “المفشش” الذي أريد له سياسيا أن ينجح لأنه يملك عدة أيدي داعمه له من داخل دواليب السلطة والإدارة والنفوذ.

عدا ذلك هذا الجزء الناجح عبر تقنية “الدوباج”، فما تبقى من هذا القطاع فهو يتحرك تحت عنوان عريض اسمه الفشل الذريع.

واسألوا أصحاب المقاولات الصغرى والمتوسطة التي أعلنت إفلاسها المبين خلال الخمس سنوات الأخيرة أو تلك التي تستعد للإفلاس والإغلاق لأنها عجزت عن تسوية ضرائبها وديونها المتراكمة، بل عجزت حتى عن تسوية مستحقات مستخدميها لدى الصناديق الاجتماعية.

اليوم، وبعد ١٨ سنة على مجيء محمد السادس إلى الحكم، فما عاد العهد الجديد جديدا وزملاء الدراسة الذين شكلوا، ولا زالوا، النواة الصلبة في فريق عمله كلهم تجاوزوا الآن سن النبوة بكثير ونضجوا بما فيه الكفاية، وهذا ما يبعث على الاطمئنان لندفع في اتجاه القطع مع أي خفة أو خطوة متسرعة أو غير محسوبة العواقب.

وبالفعل إنها بحق خفة أو خطوة غير مفكر فيها إذا كان هذا الذي يتردد في بعض الكواليس “الضيقة” صحيحا.

فما معنى إفراغ الإدارة المغربية من أطرها وكفاءاتها في ما أسميناه سابقا ب”المغادرة الطوعية”، وعندما أصطدمنا بالحائط، وهذا ما فهمته شخصيا من خطاب العرش، ها نحن نفكر حاليا في إسناد الإدارة ومؤسساتها وشؤون البلاد والعباد إلى الكفاءات والناجحين من القطاع الخاص؟

وكم أتمنى ألا يكون هذا الذي سمعت صحيحا ولو أن هناك أنباء تحدثت عن أشواط بعيدة قطعتها أجهزة وزارة الداخلية في البحث عن أسماء التكنوقراط والناجحين من القطاع الخاص، والهدف بالطبع هو تطعيم الإدارة المغربية بدماء جديدة لتدب فيها الحياة مرة أخرى.

نعم أتمنى ألا يكون ذلك صحيحا لأني أخشى والله أعلم أن يقع لنا ما وقع لذاك الغراب الذي أراد أن يقلد مشيئة الحمامة فنسي مشتيه.

اليوم، وبعد هذه السنين الطويلة من الخبرة في دواليب الحكم وبعد هذا النضج السياسي لدى الماسكين بزمام الأمور، لم يعد مسموحا لنا بذرة خفة أو نزق من القول أو الفعل.

وبالتأكيد تبقى “استقالة المكره” التي دفع إليها إلياس العمري من الأصالة والمعاصرة هي قطرة أول الغيث ينبغي أن تعقبها أخرى.

أوليس نزقا أو خفة عندما يردد أحدهم حتى بدون أن يسأل في جلساته الخاصة أن مستشارين ملكيين وازنين ومحترمين قضوا ليلة كاملة للبحث عن تلك البذلة ب”البادج الصيني” التي ظهر بها في حفل توقيع اتفاقيات بين الصين والمغرب أمام الملك محمد السادس؟

ولا أريد أن أواصل سرد المزيد من التفاصيل المحرجة في هذا المنحى لأن الهدف ليس هو إحراج فلان أو علان، وإنما الهدف هو القطع مع هذا النزق وهذه الخفة في السياسة وشؤون الحكم لأن الخفة ليست منهجا في بناء الأوطان بل ممهدة لخرابها.

ولعمري إن الأمر كذلك عندما يزعم هذا “الواحد الأحد” أنه يستطيع أن يتحدث بندية إلى ملك البلاد حتى أن يستطيع أن يخاطبه كما يخاطب واحدا من أصدقائه: “اسمع يا ولد الحسن الثاني”.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن صاحبنا كثيراً ما اتصل ليقول لهذا أو ذاك إن “فؤاد” (هكذا ينطقها) طلب منه التخلص من هذا المسؤول أو ذاك السياسي أو ذاك الموظف السامي.

فماذا نسمي هذا إن لم يكن الأمر يتعلق ب”خفة سياسية” لم يعد الذوق العام ولا العمر السياسي يسمح باستمرارها منهجا في تدبير الشأن العام الذي يحتاج إلى المعقول وإلى “أولاد الناس”، بتعبير الراحل الحسن الثاني.

وبالفعل، فطي هذه الصفحة، صفحة “الخفة السياسية”، ينبغي أن يكون خيارا نهائيا من غير رجعة لكن حذار من أن تعود هذه الخفة لتظهر من جديد في صور أخرى.

ولكي يكون الطي خيارا ثابتا وبلا رجعة فإن الدولة مطالبة أخلاقيا بتوفير “الحماية الجوية” لبعض الحكماء وذوي النيات الحسنة الذين يريدون بحس وطني أن يجعلوا من الأصالة والمعاصرة حزبا سياسيا بقيمة مضافة وليس “جهازا أمنيا” يخافه الناس ويفرون منه ولو إلى المجهول.

أقصد القول أن رحيل إلياس خطوة جيدة وهامة للقطع مع زمن الخفة لكن بقاء أقنعته هناك (بنشماش، بنعزوز، اخشيشن..) هو ليس إلا شوطا آخر من هذه الخفة التي جعلت العاهل المغربي يضطر إلى سحب ثقته من السياسة والسياسيين.

التعليقات على “استقالة إلياس”.. “الخفة” ليست منهجا سياسيا لإدارة شؤون الحكم مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…