“حكاية صحفية”.. زاوية نسعى من خلالها إلى استعادة وقائع ومواقف مفارِقة أو مفاجئة أو صعبة.. حدثت لصحفيات وصحفيين مغاربة خلال مسارهن ومسارهم المهني. يحكيها كل يوم زميل أو زميلة على موقع “الأول”

فتيحة اعرور

قبل ثمانية عشرة عاما، كنت أؤجر غرفة مع الجيران في بيت بالمدينة العتيقة بالرباط. كنت أعمل في صحيفة “المنعطف” وراتبي حينها لم يكن يتعدى 1500 درهما. كان علي تدبير المبلغ بتقشف بالغ. طبعا شابة متمردة مثلي لم تكن لتقبل بمساعدات الأسرة، خاصة من جانب الوالد. كنت أريد حرية كاملة غير منقوصة. أذكر أنني عانيت سوء التغذية بسبب التقشف. هندامي كان بسيطا اقتنيه عادة من جوطية سوق “الغزل” المحاذي لحي يعقوب المنصور.

كنت سعيدة بحياتي تلك رغم الفاقة.

ذات مرة كنت أنظف غرفتي. وبينما كنت أخرج الأفرشة إلى البهو، تسلل ثعبان ضخم من علبة ورق مقوى معبئة بالصحف والكتب. ألقيت العلبة أرضا وهرعت أطلب مساعدة الجيران لقتل الثعبان! لقد كنت أضع هذه العلبة تماما تحت رأسي أسفل اللحاف الأسفنجي حيث أنام وينام الثعبان أيضا. خشبة اللحاف كانت قصيرة، لذلك كان علي الاستعانة بعلبة ورق مقوى ضخمة لأكمل الجزء المتبقي من السرير المزعوم.

لا أدري كم من الوقت قضى ذاك الثعبان أسفل رأسي دون أن يفكر يوما في قتلي!

كنت قد بدأت أحفر لي اسما ومكانا في مجال الصحافة. عدد الصحافيات كان حينها قليلا جدا مقارنة مع الذكور. أنجزت الكثير من التحقيقات والحوارات، خاصة بعدما جاء طلحة جبريل إلى “المنعطف” من أجل إعادة هيكلة الجريدة والرفع من مستواها. هذا الرجل الذي تعلمت منه الكثير مع أنه لم يتفهم يوما عنادي في الدفاع عن رأيي وميلي إلى استقلالية رأيي.

أذكر أنه، وبطلب من رئيس التحرير، أعددت والزميل عبد الله دجاج (نهاري) ملفا عن الأمازيغية من 15 حلقة. كان ذلك في بداية سنة 2000. موضوع الأمازيغية آنذاك كان من الطابوهات، وقد خلف الملف صدى طيبا لدى كثيرين. أسابيع قليلة سيطلبني رئيس التحرير إلى مكتبه ليخبرني بأن إدارة الجريدة اقترحت اسمي للمشاركة في برنامج “حوار” على القناة الأولى.

رباه، إنه أول مرور لي في التلفزيون ولم تكن لدي بذلة تليق بالحدث!

قصدت مكتب شقيقتي التي كانت تعمل في الرباط. تسلمت منها مبلغ 300 درهم. وكان أن اقتنيت بفضلها بذلة رخيصة زرقاء من أحد محلات سويقة باب الأحد. مازلت أضحك من نفسي كلما شاهدت فيديو الحلقة.

كان المرور في برنامج “حوار” موفقا حسب العديد من الزملاء. بعضهم اعتبر أنني كسرت طابوها لما وجهت إلى العنصر، ضيف الحلقة، سؤالا بالأمازيغية في برنامج بالعربية حول تهميش العالم القروي لأجبره على الرد بالأمازيغية. كان ذلك حدثا في حد ذاته بالمقارنة مع ظروف المرحلة.

سأتلقى بعدها اتصالا من الديوان الملكي. سيدة لطيفة، عرفت في ما بعد بأنها سكرتيرة حسن أوريد (الناطق الرسمي باسم القصر الملكي) تخبرني بأنني من الصحافيين والضيوف الخاصين الذين سيرافقون الملك في أول زيارة له إلى فرنسا بعد توليه العرش. شعرت بالدهشة. لم أصدق ما سمعته أذناي. أنا البدوية التي كانت تكتب عمودا أسبوعيا في المنعطف بعنوان “أوراق بدوية في الرباط”، سأذهب هكذا فجأة إلى باريس؟ ومع من؟ مع الملك، والأميرات والأمراء، والصحافة والوزراء؟!

كنت من المطالبين بالديمقراطية في ظل ملكية برلمانية ممن صفقوا وصدقوا بأن التغيير قد حان وأننا سندخل التاريخ من بابه الواسع كما فعل الإسبان!

لم أكن أتوفر على الجواز وموعد السفر على بعد بضعة أيام. قصدت مكتب رئيس التحرير لأستشيره. اقترح علي هذا الأخير الاتصال بالجهة التي وجهت إلي الدعوة لعلها تحل المشكلة.

كنت ما أزال في الرابعة والعشرين من عمري. شابة مندفعة، عنيدة وشديدة الحماس. لم أتردد البتة. توجهت مباشرة إلى الديوان الملكي بحي “تواركة” بهندامي الرياضي المعهود. وجدتني فجأة في مكتب الناطق الرسمي باسم القصر الملكي حسن أوريد. سألتني الكاتبة إن كان لي موعد مع الرجل. قلت لا. ارتسمت ملامح الحرج على وجه السيدة لتلج مكتب رئيسها وتخبره بالأمر. بعد برهة ستأتي لتطلب مني التفضل بالدخول.

نزلت ضيفة ثقيلة على أوريد. استشفيت هذا من نبرة حديثه. أذكر أنه عاملني بفتور شديد أشعرني بالخجل من نفسي.

– أية سخافة قادتني إلى هنا! لمت نفسي كثيرا في تلك اللحظة.

سألني ما إذا كان سبب عدم توفري على جواز السفر سياسي، أخبرته بأنني لم أسافر قط ولم أحتج إلى جواز السفر من قبل، هذا كل ما في الأمر. بعدها اكتفى بالقول، بأنه سيحاول أن يفعل شيئا. غادرت “تواركة”  دون أن أتوقف عن لوم نفسي.

لم تكد تمضي ساعة حتى تلقيت اتصالا آخر من وزارة الاتصال يطلبون مني التوجه فورا إلى قسم الجوازات بعمالة الرباط مرفقة بصورة وثمن الطابع البريدي. وكان أن حصلت على جواز السفر في ظرف قياسي. كذلك التأشيرة.

سافرت إلى باريس إذن. كانت تلك المرة الأولى التي أركب فيها الطائرة واكتشف عالما آخر. باريس الدهشة الأولى، والجمال وعبق التاريخ. لقد وقعت في حب المدينة منذ هذه الزيارة مع أنها لم تتعدَّ الأسبوع.

في فندق “لاكريون” يقف الملك، والأمراء والأميرات، المستشارون، الراحلة زليخة نصري، أندري أزولاي، الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، الوزراء، الصحافيون. أقف بدوري مندهشة وسط هذه الجمع غير المتجانس. كان جميع الحاضرين يحدثون بعضهم البعض بلا كلفة. الملك وإخوته يبتسمون. لم تكن مجبرا على تقبيل أيديهم أو الحديث إليهم. ابتسامة يبادلونك بمثلها تكفي. كل شيء كان يشي بأن ما يحدث هو أن تباشير الملكية البرلمانية آتية لا ريب فيها!

في هذه الزيارة كان من بين الضيوف الزميلان أبو بكر الجامعي وعلي أنوزلا. هناك اكتشفت رقي أبو بكر ولطفه. أما علي فكنت أعرفه قبل الزيارة. كنت أتردد على مكتبه من حين لآخر كصحافية متعاونة مع  صحيفة “الشرق الأوسط”. محمد الكحص كان أيضا واحدا من الأرواح الطيبة التي اكتشفتها هناك. رجل خلوق ومهذب إلى أبعد حد. تعرفت أكثر على مصطفى الخلفي الزميل والإنسان. أذكر أن الكحص رافقنا لاكتشاف أحياء باريس وشوارعها. فاجئني الخلفي عندما اقتنى كتابا عن حياة “تشي غيفارا” وشرائط لمرسيل خليفة التي ظننت دوما أنها حكرا على اليساريين.

سأعود من باريس لألتحق بجريدة “الصباح”. قد أحكي قصة التحاقي بهذه الجريدة في فرصة أخرى، مادام المجال لا يسع هنا لقول كل شيء…ستجري مياه كثيرة تحت الجسر. لن تتحقق الملكية البرلمانية ولا العدالة الانتقالية، سيحدث فرز، فرز حقيقي وسينحاز كل منا إلى الصف الذي يدافع عنه.

 

التعليقات على عندما رافقت الملك إلى باريس أحمل فقري وحلم الملكية البرلمانية مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…