حسام شاكر 

(باحث ومؤلف واستشاري إعلامي، متخصِّص في الشؤون الأوروبية)

كيف يمكن وقف الهجمات؟ إنه سؤال يشغل المحللين والخبراء بعد كل اعتداء تشهده أوروبا كما جرى في برشلونة. فأوروبا لا تستسلم لشعور العجز في مواجهة شاحنة غير متوقعة تندفع وسط المشاة، لكنّ إستراتيجياتها وخططها الأمنية -التي تلاحقت منذ سنة 2001- لم تضمن درء اعتداءات من قبيل ما وقع في شارع لاس رامبلاس بالعاصمة الكتلانية، بل لعلها أسفرت عن تكييف الهجمات لتأتي على نحو لا يتطلب خلايا منظمة أو خطوط دعم يمكن اكتشافها.
وماذا بعد؟ يحلم بعضهم اليوم بأداة أمنية خارقة تقرأ ما في الرؤوس للوقاية من هجمات الدهس الجماعي، لكن من يرغب أساسا في العيش تحت هيمنة التلصص الشامل على ما يدور في الأذهان والمشاعر؟ وكيف سيبدو أي مجتمع عندما يرضخ لهذا المستوى من الهوس الأمني المدفوع بهاجس وجودي متأصل يمنح “الأخ الأكبر” كل هذه السلطة؟
فقدان المفهوم الشامل
لا يقتصر خطر الاعتداءات الوحشية على وقوع ضحايا وترويع آمنين، بل يشمل أيضاً تضخيم القلق الوجودي في المجتمعات والأمم، الذي هو مدخل ملائم تماماً لسحق الالتزام بالقيم والمبادئ، وتقويض مكتسبات حضارية تم انتزاعها بصعوبة أساساً عبر عهود طويلة. فإن وقعت المفاضلة بين الأمن والحرية فإن المجتمعات تستسهل التضحية بالثانية على أمل تحصيل الأولى، لكنها لن تتحقق بهذه الحيلة على الأرجح.

سارعت الحكومات الأوروبية إلى صياغة إستراتيجيات وخطط أمنية متلاحقة، وباشرت أحيانا فرض حالة الطوارئ لدرء التهديدات الإرهابية؛ لكنها أقدمت على ذلك كله دون أن تجرؤ على تطوير مفهوم واقعي يُفترض فيه أن يسبق الإستراتيجيات والخطط. ورغم كل ما تم إحباطه من هجمات حتى الآن؛ فإنّ العجز قائم في مواجهة اعتداءات تستعمل أدوات بسيطة للغاية مثل الشاحنات والفؤوس.
ويكمن السبب في أنّ البيئات الحاضنة للغضب القاتل لم يتم الالتفات إليها كما ينبغي؛ بل وقعت تغذية بعضها وتأجيجه على ما يبدو، أو تم تحديد وجهات خاطئة للمراقبة والاستهداف، طبقا لأولويات سياسية وأيديولوجية مسبقة.
عكف متحدثون مثلا على تزجية الوقت -منذ مطلع هذا القرن- بمحاولة افتعال تفسيرات دينية وثقافية وإثنية للاعتداءات؛ فحجبت تأويلاتهم الملابسات الحقيقية لما يجري، وربما استغلوا الحدث لأجل شيطنة مكوِّنات مجتمعية كاملة والإلقاء بها في مرمى الاشتباه التعميمي الجائر.
لا يخدم هذا المسلك الاستعمالي أي إستراتيجية أمنية بل يُضعفها، لأنه يقضم من رصيدها الأخلاقي أساساً، ويفاقم التناقضات المجتمعية ويساهم في توتير الجبهة الداخلية بإثارة الأحقاد. ثم إنّ التعامل الانتقائي مع عمليات القتل والإرهاب لا يعكس أي التزام مبدئي ضدها، بل يفضح دوافع استغلالية للحالة.
ثمة خطر يواجه أوروبا اليوم من شاحنات تظهر فجأة لسحق المشاة، لكنّ الخطر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى استثمار دؤوب في حالة الصدمة والذهول، لإنجاز ردّة قيمية تتذرّع بالأمن في مسعاها للفتك بحقوق الإنسان والحريات والمساواة وقيم الانفتاح.
غياب الأسئلة المركزية
لا مبالغة في وضع الأيدي على القلوب عند الاستماع إلى تعليقات سياسيين أوروبيين وهم يمرقون من الحكمة والمسؤولية والمبادئ والقيم المنصوص عليها في الدساتير، ويباشرون استغلال الوقائع الصادمة بأسلوب استغلالي رخيص.
إنهم تحديداً من يحددون موقفهم من الاعتداءات حسب هوية المعتدي لا وفق طبيعة الاعتداء، فإن صاح “الله أكبر” باشروا الفتك المعنوي بمواطنيهم المسلمين، ومضوا في تسعير خطابات التأجيج المجتمعي الرامية لتحسين فرصهم الانتخابية في الجولة المقبلة. لكنهم يصمتون مثلا عن آلاف الاعتداءات التي تشهدها أوروبا كل سنة بدوافع عنصرية -حسب تقارير مستقلة- لمجرد أنها تستهدف مسلمين ومسلمات.
ولا يثيرون تساؤلات ثقافية أو دينية عن فظائع اقترفها من ينتمون إلى “مجتمع الأغلبية”. مع هؤلاء تعمل صناعة ممتدة تأكل خبزها من الشيطنة والإسلاموفوبيا، وينتظم في صفوفها أولئك الذين يفركون أيديهم بهجة بكل اعتداء جديد يمنحهم فرصة الظهور في هيئة من يملك وصفة “الحل النهائي”.

تفرض المقاربة الواقعية الرامية لمواجهة التهديد الإرهابي إثارة أسئلة مركزية؛ فهل بوسع أوروبا الانغماس في عيش آمن وهانئ وهي تشيح بوجهها بعيداً عن عالم يحترق من حولها وتفتك به أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية طاحنة؟ وهل يمكن إعفاء أوروبا ذاتها -أو بعضها على نحو أدق- من المساهمة بأقساط متعددة في تراكم بعض الأزمات في جوارها الجنوبي، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، عبر عهود متعددة؟
ألا يجدر مثلاً التساؤل عن السلوك الرسمي الأوروبي عندما أخذت الدبابات تندفع لسحق الحرية والكرامة والديمقراطية في عواصم عربية خلال السنوات والعقود الماضية؟ ألم يتوفر غطاء أوروبي لتقويض الإصلاحات السياسية وفرص احترام كرامة الإنسان عندما بزغت بواكيرها؟
ألا يقتضي الموقف فحص مفعول سياسات تقليدية أسفرت عن تعظيم الفجوات الاقتصادية في عالم واحد، وساهمت بالتالي في تشكيل مشهد مأساوي مزمن في السواحل الأوروبية؟ ألا ينبغي تشخيص تقاليد مزمنة من نهب الموارد تجري في بلدان أفريقية لصالح شركات كبرى تحظى في النهاية بموفور الأرباح دون أن تتمكن المجتمعات المحلية من تحسين شروط بقائها في المكان؟ ألا تبدو العظة كافية من مشهد شبان قانطين يطلبون حياة كريمة في أوروبا بعد مغامرات فائقة الخطورة في عرض البحر؟
ومع التدهور العدمي الذي يتجلى في قوارب الموت وحُمّى التوترات وموجة الإرهاب؛ لا يسع أي إستراتيجية أمنية أن تنجح في زمن العولمة؛ بمعزل عن الالتفات إلى تناقضات متفاقمة في عالم واحد يزداد تقارباً وتداخلاً.
تمنح هذه التناقضات خاسري الجولة شعوراً بأنه “عالم ليس لنا”، وفق تعبير غسان كنفاني؛ فيبحث بعضهم عن فرصهم في الاتجار بالمخدرات وأعمال السطو والجريمة المنظمة، طمعا في اقتطاع موقع قسري في الفردوس الأرضي الموعود.
وقد تنتهي التجربة مع بعضهم باعتلاء شاحنة ومباشرة السحق الجماعي، وبالطبع يجري انتقاء ما يلائم هذا الفعل الوحشي من الشعارات والمقولات التي تمنح وعودا مضللة ببلوغ فردوس أخروي على أشلاء الأبرياء.


“عالم ليس لنا”

لم تنبع الحالة إذن من فكر أو دين؛ بل من اليأس والغضب. فلا يصح عزل خطابات التوحش وممارسات الفتك عن شروط الواقع الذي اختمرت ضمنه، وهو ما يجعل الاقتصار على مقاربات “العلاج الفكري” للحالة ترفاً لا يمس صميمها ولا يصنع فارقا جوهريا، رغم أنّ الإرشاد الفكري يبقى مطلبا لا غنى عنه.
لكنّ المنشغلين بطقوس “حرب الأفكار” و”خوض المراجعات” لا تطيب لهم المقاربة الاقتصادية/الاجتماعية في إدراك الظواهر المتشكلة من حولهم، ولا يلتفتون إلى واقع مأزوم ينضح ببواعث اليأس والغضب وإن لم يعترفوا به.

ليس العنف الوحشي “شرق أوسطياً” ولا هو “عربي” أو “مسلم”؛ بل هو عنف بشري يمكن توقعه في أي بيئة، ويستمد مقوماته من ملابسات كامنة في ثنايا الواقع، على نحو يفيض بالجرائم وحالات الانتحار مثلاً التي تتفشى في أوساط الشباب الأوروبي بمعدلات مذهلة، علاوة على اقتراف اعتداءات من ألوان شتى.
وعندما يعتنق شبان أوروبيون الإسلام بهدف الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مثلاً، فإنهم يجدون في بوابة “داعش” فرصة انعتاق من مجتمعاتهم إلى عالم آخر، ربما كي يباشروا الانتقام من واقع لم يعترف بهم، وربما شعروا بأنهم قد سُحقوا تحت عجلاته.
وعبر تطبيقات القتل السهلة يملك الغاضبون والقانطون اليوم وصفة مذهلة لإيلام مجتمعاتهم، وصناعة أحداث مدوية ترغم زعماء العالم على الإفاقة من سباتهم العميق للإدلاء ببلاغات التعزية. إنهم يخوضون ملحمة التوحش بمجرد السيطرة على شاحنة وسحق ما يعترضهم من لحوم غضة، وسيتركون للهواتف الذكية بقية المهمة في توثيق فعلتهم كي يشاهدها مئات الملايين ويتضخم الشعور بالإنجاز الدموي.
ورغم عجز المقاربات الأمنية؛ ما زالت أوروبا تترفّع عن مراجعة مفهومها الأمني الشامل، الذي لم يتكيف مع تحولات العولمة والتشبيك كما ينبغي، وما زال متعاليا عن إدراك مفعول السياسات الخارجية والفجوات الاقتصادية والاجتماعية في عالم واحد.
لم يقع الاعتراف بعدُ بتشابك المصائر على ضفاف المتوسط، وأنّ تفكيك العالم العربي مثلا لن يمنح أوروبا أمناً بأي حال. ودون السقوط في فخ المقولات التبريرية المشينة لأعمال القتل الوحشي؛ فإنّ تشابك التفاعلات يقتضي الاعتراف بأن غضّ الطرف عن سحق حواضر العرب والمسلمين التاريخية -واحدة تلو الأخرى- لن يبعث في النهاية بباقات الورد إلى باريس وبرلين ومانشستر وبرشلونة.
ما زال بعض السياسات الخارجية الأوروبية فوق مستوى المراجعة والمساءلة، بل يكفي الاقتراب من عش الدبابير هذا لإطلاق لسعات ارتدادية جرّبتها مثلاً وزيرة الخارجية السويدية مارغوت والستروم، عندما لفتت الانتباه في خريف 2015 إلى أهمية مراجعة دوافع الغضب وملابسات الأزمات كما في قضية فلسطين، مدركة مفعول السياسات الخارجية المسكوت عنها.
من العبث انتظار جهاز يقرأ ما يدور في رؤوس الراغبين في الدهس الجماعي، لكنّ الخيار الواقعي المتاح اليوم هو قراءة ما يدور في ملابسات الواقع، الذي ينضح بكل هذا اليأس والغضب القاتل.

التعليقات على أحداث برشلونة.. الفكر والدين أم اليأس والغضب؟ مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…