محمد المساوي

عرفت وفاة الداعية المثير للجدل رئيس “الجمعية المغربية للبحوث والدارسات في فقه النوازل” عبد الباري الزمزمي، تجاذبا لاطرف النقاش والجدال بين من طالب باحترام الموتى وعدم التشفي فيهم، وبين من رأى أن التذكير بما يمكن اعتباره مطبات الميت أو مساوئه هو امر عادي لا طائل من ورائه، فقط هو مجرد تذكير بواقع كان. ومصدر حدّة هذا الجدال هو أن الرجل عُرف قيد حياته بفتاواه المثيرة للجدل، وكثيرا ما أثارت الاستهجان والاستغراب.

كان هذا فحوى النقاش الذي دار ويدور على مواقع التواصل الاجتماعي، الى أن دخلت جريدة “اخر ساعة” على الخط بنشرها عنوانا لخبر وفاة الزمزمي اعتبره البعض مستفزا، يتقاطر تشفياً، وأنه لا يجوز أخلاقيا ولا مهنيا أن يثوي الإعلام مثل هذه السقطات. في حين اعتبره البعض عاديا ومهنيا ومنهم هيئة تحرير الجريدة وخاصة مدير تحريرها الذي كتب توضيحا، يستبطن من خلاله أن من هاجم أو انتقد طريقة صياغة الخبر تتحكم في لاوعيه نزعة داعشية هي من جعلته يهاجم العنوان.

في هذا المقال سنحاول تناول الموضوع بقليل من التروي والموضوعية، بعيدا عن لغة العاطفة التي صارت للأسف هي من تُنتج مواقفنا المتشنجة، ونغرق معها في سفاسف الأمور، انتصارا لهذا ضدّ ذاك، في حين مثل هذه الأمور التي تقع على التماس مع قضايا أخرى يفترض أن نتوخى بإزائها كامل الحذر، نقول هذا بعد أن كثر الغمز واللمز، لا سيما بعد عنوان جريدة “اخر ساعة”، الى أن أصل هذا الجدال ليس خبر الموت في حد ذاته، وإنما هو امتداد للصراع “الأبدي” بين البام والبيجيدي، على اعتبار أن جريدة “آخر ساعة” مملوكة لامين عام حزب الاصالة والمعاصرة، وأن الهجوم على الجريدة بدأته المواقع الالكترونية المقربة من البيجيدي.

بعيدا عن هذه الثنائية القطبية “المفتعلة”، وبالنظر إلى الموضوع فإننا يمكن أن نسجل ما يأتي:

“آخر ساعة” والمهنية المفترى عليها:

من الناحية الدينية : بعدما نال عنوان خبر “آخر ساعة” الكثير من النقد والهجوم والتحامل أحيانا، والذي جاء على الصيغة الاتية: “رحيل صاحب فتاوى “خيزو” و”يد المهراز”..الزمزمي..إنه الآن يسأل”، اضطر مدير تحرير الجريدة الى كتابة توضيح على صفحته الفايسبوكية، ونشرته مواقع الكترونية أيضا، التوضيح كان دفاعا مستميتا على “مهنية” عنوان الخبر، وأن الاستفزاز غير موجود وغير مقصود بالبتة، وغمز الى أن من ينتقدون الخبر فعلوا ذلك من منطلق المهنية الإعلامية أو “الأخلاقية الدينية”، وخصص معظم توضيحه للرد على أصحاب “الأخلاقية الدينية” حتى أن عنوان التوضيح جاء في صيغة تساؤل على الشكل الاتي”كم يلزمنا للتحرر من الداعشية فينا”، وهي إحالة واضحة إلى أن من انتقدوا عنوان الخبر فعلوا ذلك انصياعا للداعشية النائمة التي تسكن دواخلهم، واستفاض صاحب التوضيح في شرح أصل الفكرة التي صيغ منها العنوان، وهي حديث منسوب لعثمان بن عفان يقول فيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم “إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ”، مدير التحرير يريد أن يقنعنا أن العنوان مأخوذ من سيرة الرسول، وليس فيه أي مبرر “للخوانجية” للهجوم عليه. لكن شتان بين منطوق الحديث، وبين منطوق العنوان، الحديث يقول أنه عندما يدفن المسلم على اخوته أن يستغفروا له ويدعوا له بالتثبيت؛ لماذا لأنه يكون حينئذ أمام الله يُسأل عن أعماله. بينما العنوان يقول إن صاحب فتوى”خيزو” و”يد المهراس” انه الآن يُسأل، ومنطوق عنوان الخبر يختلف كلياً عن معنى الحديث. في الحديث دعوة لطلب المغفرة والتماس التثبيت للميت، شارحا لماذا هذه الدعوة والتثبيت، فكان الجواب “فإنه يُسأل”. بينما عنوان الخبر ذكر أسوء فتويين أثارتا الكثير من الجدل والاستغراب، ثم بعد ذلك وضعت نقط الحذف، وبعدها ببنط عريض أعرض من الجزء الأول من العنوان، كتبوا: “..إنه يُسأل” هنا تأكيد وليس شرح بعدما سقطت “ف” الجواب التي تضمنها الحديث.

الخلاصة أن عنوان الخبر فيه تشف واضح، ومفاده أن الزمزمي الذي عُرف بفتاواه الغريبة هو الآن يُسأل عنها بكل تأكيد، بينما الحديث يدعوا إلى طلب المغفرة والتثبت للميت شارحا سبب هذا الطلب بكون أن الميت الان يسأل.

من الناحية المهنية: في هذه النقطة نتفق على أن عُصارة المهنية في الإعلام مجلوبة من احترام إنسانية الإنسان، وعدم الانجرار وراء السب أو الشتم أو العنصرية أو تحقير الآخرين، عندما نكتب مثل ذلك العنوان فأكيد فيه إيذاء لمشاعر أقرباء الميت، طبعا الزمزمي ليس بمقدوره أن يقرأ تشفي عنوان خبر “آخر ساعة” هو الآن راحل عن هذه الدنيا، بل من سيقرأ العنوان هم أبناء الراحل وأحفاده وبناته وزوجته وأقاربه ومحبوه، هؤلاء أكيد سيشعرون بالأذى، وهم لا ناقة ولا جمل لهم، فقط هم أقرباء الرجل الذي ربما في حياته اختلفنا معه كثيرا أو قليلاً، لكن ألان عندما نشتمه أو نتشفى فيه فهو لا يسمعنا، فقط نؤذي أقاربه ونترك ندوبا في قلوبهم وهم يعيشون حزن رحيل قريبهم، هم لا ذنب لهم ولا مسؤولية لهم فيما كان يقوله ويفعله فلماذا إيذاؤهم إذن؟ هنا يُطرح سؤال مهنية عنوان الخبر موضوع الجدال، فمهما كانت حسن النية، ما دام أن العنوان فيه إساءة قد يتأذى منها أقارب المعني بالأمر وهم لا ناقة ولا جمل لهم في الموضوع، فمهنيا لا يجوز. بل يجذر في هذه الحالة احترام مشاعر الناس واحترام حزنهم.

مواقع التواصل الاجتماعي؛ وقوع الحافر على النافر

الجدال حول التشفي في وفاة الزمزمي كان قد انطلق أساسا من الفايسبوك، قبل أن تصبّ عليه جريدة “آخر ساعة” الكثير من الزيت ليشتعل أكثر فأكثر، انطلق الجدال في البداية عبارة عن انطباعات ينشرها هذا وذاك، إلى أن انتقل الامر إلى نقاش حاد بين من يدعو الى احترام الميت وعدم ذكر مساوئه أو التشفي فيه، وبين من يرى أن الامر عادي ولا يجب أن يدعنا جلل الموت نخفي الحقيقة أو نسكت، ثم بعد ذلك تحول إلى صراع بين أنصار مول “اخر ساعة” وأنصار البيجيدي، ثمة من كشف عن هذا الاصطفاف بشكل غير مباشر او مباشر، وثمة من حاول أن ينأى بنفسه عن هذا الاصطفاف، حاول أن يجترح موقفا من الموضوع غير مقيد باشتراطات هذا الاصطفاف. بيد أن الكثير من اللغط، وتعويم الموضوعات استأثرت بهذا الجدال:

ليس احترام الميت بل احترام أهل الميت:

بدا أن العديد ممن تشفوا في وفاة الزمزمي فعلوا ذلك نكاية في “الخوانجية” وبما يوصي به الدين الإسلامي، خاصة أن ثمة حديث تجمع الكثير من المصادر على عدم صحته يقول :”اذكروا امواتكم بخير”، لكن بغض النظر عن صحة الحديث من عدمه، فهذه قاعدة يتعامل بها المسلمون في قضية الموت وهي معروفة لديهم، والخروج عن هذه القاعدة هو امر محمود اذن بالنسبة إلى من جُبل على توجيه أسنة حرابه ضد الدين الإسلامي والفكر الظلامي، وراحوا يمعنون في التشفي، أولا: انتقاما من الزمزمي الذي لم ترقهم فتاواه، وثانيا: إمعانا في خرق قواعد المجتمعات الإسلامية المتخلفة التي تقدّس الموت والموتى (كذا).

لكن، في الحقيقة الأمر ليس كذلك، فبعيدا عن لغة العاطفة والتشفي والنكاية، إن احترام الميت هو شعور إنساني نبيل، لأن فيه تقدير واحترام لمشاعر أهله وأقربائه، من المفروض على كل إنسان، يدّعي أن شيئا من الإنسانية تسري في دمائه، عليه أن يعرض على التشفي في الميت احتراما لحزن أقاربه، هنا يفترض أن يحترم الميت لحظة دفنه وفي مرحلة حزن عائلته، أما بعد أن تمر الأيام والشهور، ويذهب حزن الأقارب، حينئذ نتحدث عن التاريخ، لنا أن نقول ما نشاء، أن ندافع أو أن نتشفى، أو ننتقد لأننا حينها لن نكون بصدد ايذاء مشاعر الاخرين وهم في حالة حزن، بل سنكون بصدد البحث عن الحقيقة ونقاش افكار الرجل حتى بعد رحيله. إذن لا بد من الانتباه وعدم الخلط، الدعوة هنا لا تتعلق بطمس مطبات الميت أو السكوت عنها، بل يتعلق الأمر باحترام حزن أقاربه لحظة وفاته والأيام التي تليها، أما من بعد فأقوالنا وأفكارنا معرضة للنقد والتأويل، بل حتى التجريح والانتقاص منها أو التشفي بصاحبها، آنذاك نكون بصدد نقاش مشروع الرجل ولا نؤذي مشاعر أقربائه وهم يعيشون حزن رحيله.

الترحم على الطغاة والترحم على من تخالفهم الرأي

العديد من الفايسبوكين لكي يبينوا حجية تشفيهم راحوا يتساءلون بسخرية وباستحضار مقارنات ليؤكدوا أن التشفي في الميت قياسا إلى أفعاله ليس أمراً مرفوضاً، بل هو أمر مستساغ، وربما أحيانا قد يكون واجبا، فيقولون مثلا: إذا كان لا يجب أن نتشفي في الميت فقط لأنه ميت بغض النظر عن افعاله فهل يجب عدم التشفي في هتلر وشارون وادريس البصري والعديد من الطغاة؟ الجواب على هذا السؤال الساذج الذي ينطوي على مغالطة فجة ينبني على شقين: أولا؛ ثمة فرق بين التشفي من تاريخ الرجل بعد ان يموت كما هو شأن هتلر أو البصري أو…، وبين أن تتشفى بالرجل لحظة وفاته وعائلته مكلومة تسمع أو تقرأ التشفي، هنا الإيذاء يمس أساس هؤلاء الأقرباء الذين لا ذنب لهم فيما قاله او اقترفه الميت. اذن ثمة فرق بين هذا وذاك ولا قياس مع وجود الفارق.

ثانيا:صحيح، فقد عُرف عن الراحل الزمزمي فتاايه التي أثارت الاستغراب والاستنكار أحيانا، ومعروف أيضا انه ندّت عنه تصريحات أضرّت أو آلمت كل ديموقراطيي البلد، لكن هو في اخر مطاف كان صاحب رأي مهما تطرّف فيه، ولم يكن صاحب سلطة يقتل الناس او يعذبهم حتى الموت كما كان يفعل هؤلاء الطغاة. هنا أيضا يبدو الفرق شاسعا بين هذا وذاك، ومرة أخرى لا قياس مع وجود الفارق. نعم الزمزمي نختلف معه، نكرهه، نعاديه، لكنه ليس هتلر او البصري او…

إن عدم التشفي في الموتى ليست قاعدة إسلامية فقط، بل هو سلوك انساني يغترف من نبل القيم الإنسانية، لأن فيه احترام للاخرين، الذين هم أقارب الراحل، فليس عدلا ولا منطقيا أن نؤذي اشخاصا لا ناقة ولا جمل لهم، إلا كونهم تجمعهم علاقة قرابة مع الراحل، بل يفترض أن نحترم هؤلاء، أما الراحل فلن يؤذيه تشفينا ولا يسمعه أو يقرأه، لذلك يفترض من الواحد أن يُنصت إلى صوت الإنسان داخله، أن ينصت إلى صوت العقل، لا أن ينجرّ وراء العاطفة، ويصطف مع هذا ضدّ ذاك.

 

التعليقات على رأي في الجدل الذي أثير عقب وفاة الشيخ الزمزمي مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…