سليمان الريسوني

كثيرة هي الإشهارات التي نشأت عليها أجيال سنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وطبعت ذاكرة هذه الأجيال التي كانت تحفظ تلك الوصلات الإشهارية عن ظهر قلب كما تحفظ دروسها ، فأصبحت تلك الإشهارات جزءا من ذاكرة بل من شخصية هذه الأجيال. في هذه الورقة نسترجع تاريخ الإشهار المغربي مع عدد من مؤسسيه ورواده

فجر الاشهار

“مساء الخير ياك عرفتوني، أنا الليمونة جايبة ليكم خبر جديد. سان سوس.. سان سوس…” بإمكاننا أن نستحضر، جماعة، هذا الإشهار المعروف، الذي يرجع إلى نهاية السبعينات، بسبب إيقاعه وأصالة فكرته (ليمونة عِفريتة ترقص وتغني وتقفز) إشهار خلق الحدث بفعل ما جاء به من تجديد، وأفكار غير مسبوقة حينئذ.

هذه الصور التي قد تبدو الآن متجاوزة، كانت في وقتها هي قمة الإبداع والإدهاش… فالوصلات الإشهارية أو “السبوطات” التي عرفتها سنوات السبعينات والثمانينات، وبفعل ما تميزت به من إبداعية وجِدّة، وكذا روح الدعابة التي طبعت جيلا كاملا من المغاربة؛ لم تنجزها غير وكالات إعلانية كانت، وقتها، مبتدئة، و يشرف عليها شباب جاؤوا “مضيين سنانهم على الإشهار”.

لقد كانت هذه الوصلات، التي نتذكرها الآن، على درجة عالية من الابتكار والإحساس المتقد بالصيغة والفكرة الإشهارية؛ الشيء الذي نفتقده الآن “فرغم أن المنافسة لم تكن كثيرة، إلا أنها كانت على أشدها” تتذكر كوليت عمرام، الإشهارية المخضرمة، التي لحقت بالجيل الجديد الذي سعى إلى مغربة الإشهار. ” كنا غير خمسة بنا، ولكن راه كنا منوضين الروينة، وكنا كنضاربو على شكون للي غادي يخرج ليه أحسن فيلم إشهاري فالشهر” تضيف كوليت عمرام. لقد كان هؤلاء الخمسة الإشهاريون، أواسط السبعينات يشغلون سوقا في بداية ازدهاره، ساعدهم في ذلك مناخ الديمقراطية الذي تميزت به، آنئذ، الأداة السحرية: التلفزيون، علاوة على السينما والصحافة و”هافاس المغرب” الوكالة الفرنسية للأنباء التي استقرت بالمشهد الإشهاري المغربي منذ الحماية.

عفاريت الإشهار

مع بداية السبعينات ازدان المشهد الإعلاني بالمغرب بميلاد ثلاث وكالات اشهارية: “شمس للإشهار” التي أسسها نور الدين عيوش سنة 1972، و”طوب إشهار” التي أطلقتها سنة 1974 كوليت عمرام، ثم “كليم” التي جاءت سنة 1976 حاملة توقيع حميد قادري وشريكين له سينسحبان لاحقا.

اتسم فرسان الإشهار المغربي الثلاثة هؤلاء بالتجديد والجرأة وسط مناخ سياسي واقتصادي لم يكن يشجع على الإبداع، ولا على السخرية وروح الدعابة. “كنا باقيين طريين، وكانت عندنا معرفة بالمحيط للي كنا كنشتغلو فيه” يتذكر نور الدين عيوش.

بفضل الفورة الإبداعية لعفاريت الإشهار الجدد حينها، تطور الإشهار في الاتجاه المعاكس تماما لما راكمه سابقوهم ممن ظلوا محكومين بالإرث الثقيل لأسلوب الإشهار الفرنسي، وبذلك استطاع هؤلاء الشباب الزيغَ عن “الطريق المستقيم”، ليسُنوا لأنفسهم عقيدة تقوم على: القرب من الجمهور المستهدف، شأنما فعلت كوليت عمرام عندما استدعت محمد الدرهم الذي برز ضمن مجموعة جيل جيلالة، والذي سيكتب كلمات أغاني الوصلة الإشهارية “علي وابراهيم” الثنائي للي تشهر بالهضرة على (المزايا) ديال البنك الشعبي، وهو الإشهار الذي حاز الجائزة الأولى في “مهرجان الأفلام الإشهارية المالية” متفوقا على وصلات أوروبية ومن الولايات المتحدة واليابان.

هذه الاشهارات الجديدة تميزت أيضا بلجوئها إلى لغة توسلت خطابا مباشرا ومفهوما لدى غالبية المغاربة، وبالدارجة العروبية المفضلة لدى الجمهور، وكانت سابقة حققتها وسيلة الإعلام الرسمية الوحيدة “إ. ت. م”، وكم ترك ذلك سعادة كبيرة لدى المشاهدين والمستمعين، الذين تعودوا على لغة عربية فيها “بزاف ديال المعقول”، فكانت النتيجة أن أصبحت أغلب الوصلات الإشهارية محفوظة تردد في البيوت وفي الشوارع؛ ومازال جيل الستينيات والسبعينيات يتذكر الوصلة الإشهارية “هو صابون الكف” التي كانت حول صابون جاء من  مرسيليا، وحقق نجاحا باهرا، إذ أصبحت أغنية “هو صابون الكف” تغنيها الأجواق في الأعراس والأفراح. لنتذكر أيضا الوصلة الإشهارية التي كانت تقدمها ثريا جبران  عن “البوطاكاز مولات اللون الزرق السماوي” وحوارها العفوي مع محمد مفتاح “تا بغيْنا نصبنو ولا نطيبو.. ولا باس للي دارو ليها الشابو” …

في زمن هذه الوصلات الثمانينية، سيكون الإشهار المغربي قد قطع أشواطا مهمة. كوليت عمرام، نور الدين عيوش، وحميد قادري الذين تعرفوا إلى بعضهم بعضا داخل دهاليز “هافاس المغرب”، قبل أن يركبوا المغامرة كأفراد، ثم كمتنافسين لاحقا.

عن سنوات التعلّم تلك، ما يزال حميد قادري يحتفظ بالود للمْعلمين ديال بكري بحال مدير هافاس “وكرات”  الذي علمه أصول المهنة، فحميد لم يكن من الممكن أن يكون على رأس واحدة من أهم وكالات الإشهار لولا الصدفة، فقد انتقلت إليه عدوى الإشهار بعد أن أنهى، بتفوق، دراسته في الهندسة من جامعة نيس، ليحل في هافاس، حيث لن يغادر الإشهار أبدا.

نور الدين عيوش، بدوره مر من خيمة “هافاس” قبل يقرر خوض تجربته منفردا، فبعدما عاد من باريس يحمل دبلوما جديدا وكله حماس، مر من “هافاس” ثم “سينما بريس”، وما لبث أن قرر شق طريقه لوحده، حيث أطلق بداية من 1972 مغامرة اسمها “شمس للإشهار”. إلا أن جائزة المسار المتفرد ستستحقها وبلا منازع كوليت عمرام، التي أشسقطتها الطائرة في عالم الإشهار غير بالصدفة”، فمؤسِسة “طوب للإشهار” الوكالة التي تربعت على عرش “الدعاية” المغربية لسنوات طويلة، كانت في بداية السبعينات أما هادئة لعائلة سيختار أبناؤها فجأة أن يظهروا في وصلة إشهارية من إنتاج ” هافاس”، وشيئا فشيئا ستجد هذه الأم نفسها منجذبة لهذه المهنة، وسينتهي بها الأمر في مدة ثلاثة أشهر تشتغل مع الوكالة الإشهارية الأولى في البلاد، وهكذا ستستسلم كوليت عمرام نهائيا لتأثير الإشهار، حيث ستغادر هافاس لتؤسس “علبتها” الخاصة.

الآن، وبعدما تجاوزت السبعينات من عمرها، ما تزال السيدة التي غادرت مهنة الإشهار، تحتفظ بفيض من الذكريات الجميلة عن تلك السنوات الرائعة، “للي ما كان فيها والو، ولكن كان كل شي فيها كيبان مسموح به”. تتذكر كوليت: “كنا رواد ديال بصّح وعلى داك الشي كنا كنحطو قدام عينينا مسألة إقناع الكليان، وكنبداو نخدمو بلا ما نوقفو”

https://www.youtube.com/watch?v=7Hm5k-Dnag4

للي قال لعصيدة باردة…

بدايات الموجة الجديدة للإشهار لم تكن أبدا مفروشة بالورود، فمحدودية الموارد فرضت الاشتغال بفرق صغيرة ومحدودة العدد، ومن ثم كان إشهاريونا مضطرين للعب أدوار مختلفة؛ فهم المصممون وهم المحررون والمنتجون، وهم يباشر الماكينات، ويفاوض الزبناء… “سبع صنايع والرزق ما ضايع”، كل ذلك داخل إيقاع عمل مكثف لا يعرف الراحة، لا بالليل ولا بالنهار، كل ذلك لكي يكون العمل متقنا ومنجزا في الوقت المحدد.

عفاريت الإشهار هؤلاء لم يكونوا يتوانون في أداء مهامهم، حتى إذا تطلب ذلك اللجوء إلى استعمال الحيلة، عندما يتعلق الأمر بإقناع زبون كبير بجدية عملهم. تتذكر كوليت عمرام بحنين: “ملي بدينا ف 1975 كنا غير ثلاثة بنا فالوكالة، وكان لازمنا رأسمال كبير باش يكون الأداء ديالنا عندو مصداقية، ومن بعد  واحد المجهود كبير قدرنا نربطو علاقات عامة، وهكذا حتى قدرنا نقنعو واحد البنك مهم يعاوننا باش ندخلو المنافسة، ومع ذلك ما قدرناش ننجحو بسهولة، فالفريق الصغير اللي كان كيشرف على الوكالة ماكانش قادر يدير الخدمة كاملة، وبالتالي كان عليَّ نلعب بزاف ديال الأدوار، الشي للي صعّب علي نقدم التصور للي كنت باغيا …”، في هذه الأجواء ستتبادر إلى ذهن الذكية كوليت فكرة  عبقرية؛ بحيث حولت بستاني منزلها وسائقها الخاص، وزوجها، بالإضافة إلى بعض الطلبة المتدربين في الوكالة، إلى فريق عمل “بحال يلا ديال بصّح، لبستهم الكوستيمات، ثم وزعت عليهم الأدوار والحوارات.. غاديين تكَلسو فالموضع لفلاني.. تهضرو فالوقت لفلاني…” تعترف كوليت ثم تضيف: “وهكذا قدمنا التصور ديالنا وكل واحد فينا لعب الدور ديالو باتقان.. كل واحد كيتدخل فالوقت المناسب، مازال نعقل شحال جا الجاردينيي غزال فالكوستيم.. وأنا بسباطي، الصغيوّر كنقدم النجدة في كل سؤال كيتطرح على المساعدين ديالي للي ماعرفين والو”، وهكذا لم يلحظ الزبناء شيئا، بل أعجبو بفكرة وتصور الوكالة، ليستمر تعاملهم م”و قوالب”. مشاكل البدايات التي تكون عادة مرتبطة بقلة الموارد المادية، غالبا ما يتم التغلب عليها بالمجهود المضني، يستحضر حميد قادري كيف “كنا في بداية الثمانينات منين دبرات “كليم” على عقد مهم مع شركة الطيران “إيبيريا”، ماكانش فداك الوقت لا حاسوب لا ماكينطوش، في زمن “الصورة المركبة”Photo Composition وبالتالي كان علينا باش نوجدو الخدمة كلها باليد، كنا كنصممو الملصقات وحنا مضغوطين بالوقت، وشحال سهرنا ليالي كنقطعو الحروف باليد ونلصقوها بالمهل… كنا كي النمل”.

في وكالة ” كليم” كان أحد المدراء الفنيين ينفعل كثيرا من عمل مضنٍ ولا مردودية كبير منه، وبالتالي كان يترك العمل ويغادر المقر، تاركا الجمل بما حمل، إلا أن حميد قادري الذي لا يقبل الهزيمة ويحرص على إنهاء العمل مهما كان الثمن، يلحق بالمدير الهارب و”كيشنق عليه ويرجعو يخدم وخا كَاع فالثلاثة ديال الصباح”، مثلما حدث ذات ليلة.

لم يكن هناك غير التضحية ولا شيء غير التضحية، “فالمحيط اللي كنا كنخدمو فيه كان فقير من ناحية الماتريال”، يؤكد حميد قادري، ثم يضيف: “وليكُن في علمكم بأنه غير باش تعيط على كليان كان خصك تهز السماعة ديال التلفون وتتسنى الحرارة للي كتجي وقت ما رشق ليها، عاد باش تركب الرقم، ويلا كان هذاك للي كتعيط ليه كيهضر مع شي حد آخر ما عليك إلا تعاود تركب الرقم، وحتى لبوطون “بيس” ما كانش داك الساعة”.

هذا الفقر في المعدات والآليات كان يتم تعويضه بالمجهود الذاتي النابع من حب المهنة. سر نجاح هؤلاء الفرسان الثلاثة يعود إلى كونهم “كانو عارفين آش كيديرو، ومكيمضغوش الهضرة منين كيتعلق الأمر بمهنتهم التي أصبحت اليوم متوفرة على المعدات والأجهزة، وذلك بفضل الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، التي لا تصنع دائما الموهبة” فالموهبة، يؤكد نور الدين عيوش، توجد في الإبداع، وفي روح الدعابة والسخرية”. ” شمس” و”كليم” و”طوب”، بفضل نبض هذه الأقطاب الإشهارية الثلاثة بالخصوص وبفضل حيويتها وتجديدها أيضا، سيتطور الإشهار بالمغرب.

اليوم كوليت عمرام فخورة بالكتاكيت التي حضنتها في ظروف صعبة “منين كنشوف الشباب، للي كانو متعاونين معايا، على رأس كبرى الوكالات، كنحس بفخر كبير، وهاذي هي المكافأة  ديالي. فالكلمات تضيف كوليت، ليست بالقوة باش تعبر على الفرحة ديالي بهاذ الشباب للي ولاّو كيطيرو بجنيحاتهم الخاصة”.

اليوم الإشهار عرف قفزة… كيف أصبح الإشهار الآن؟ هذه قصة أخرى.

 

 

 

 

التعليقات على تاريخ الإشهار بالمغرب.. حكايات طريفة عن أشهر الوصلات التي تربت عليها أجيال مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…