لبنى الفاسي

“سنين وحنا حداك أمولاي البحار”

“سري فيك عميق لا موجة جابت خبار”

 

عتبة أي كتاب عنوانه، وعنوان مدينة العرائش مزدوج الدلالة والرمز، عميق الإيحاء عمق ذاكرة المدينة الجماعية وأصالتها وزخمها، “حيث العالم في الفكر أوسع بكثير من العالم في الأشياء”. فجواز الدخول إليها كما هو متعارف، موسوم بمأثور شفهي شجي يربط الإنسان العرائشي بالبحر، ويربط اسم المدينة بالمؤنث وفي لقب المرأة. فإذا كانت المدن المجاورة تلقب أو ترتبط بأسماء لأولياء صالحين عرفوا بالصلاح والورع والوقار لم ينكر لهم زمنهم هذا، ولا الكتب التاريخية، فمدينة العرائش ارتبط اسمها بامرأة هي الأخرى اعترفت لهل الذاكرة، اعترف لها الصوت قبل الحرف.

وبالبحث في الموروث الثقافي للمدينة، نجد نساء بصيغة الجمع، كل لها سرها في حكاية نقشت على صخور العرائش، يتقاطع فيها المتخيل الاجتماعي والرمزي.

هنا، نتوقف لدراسة ومقاربة “أنثربولوجية” تتناول بالتحليل إحدى هاته النسوة في مقطوعة ” للا زوينة ” كلمات: عبد السلام الصروخ  ألحان: زهراء البوعناني.

فما مكانة هذا الموروث الشفهي على مستوى الذاكرة الشعبية العرائشية؟ خصوصا وأن الحكاية قيد الدراسة جغرافيتها محلية بامتياز، وتتحرك فيها الذات على هذا المستوى.

نؤكد منذ البدء، أنها مقطوعة تختزل في طياتها موروثا شفهيا يأخذ طابع المرددة النسائية التي تستغور أبعادا وتيمات سيكولوجية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية مخفية في حاجة على أركيولوجي لنفض الغبار عنها وعن بوح الذات القلقة.

ولابد من الإشارة إلى أن هذا النوع من النصوص ينفتح على كل القراءات والقراءات المضادة كونه مفعما بالرمز، ولم يخلق هذا النص الشفهي ذو الطبيعة الزئبقية ليكون خاضعا لمنهج معين، فهو غير قابل للانصياع، إذ يستدعي في دراسته كل المناهج.

فما هي أهم الأبعاد البارزة في هذا النص؟ وما هي الرموز والدلالات التي أثثت حواشيه؟

 

  • البعـد الحـكـائي:

ندرك تمام الإدراك أن الحكاية لها قدرة كبيرة على تلخيص قيم المجتمع، قيم نبيلة لم تفرغ من قداستها ومن نبلها وسموها.

ونحن هنا أمام حكاية اجتماعية واقعية لفتاة ساقتها الأقدار لأن ترتبط بشاب بحار، وفي ليلة زفافهما يغيب الشاب وسط الموج، فتنتقل الفتاة “للا زوينة” إلى الصخرة وتناجي البحر لاستعادة حبيبها الذي لم يعد.

” نتسنى بالليل والنهار    على حبيبي يجيب شي خبار ”

(ويتدخل البعد الأسطوري حين يتصور المتخيل الصخرة في جسد امرأة كما لو أن الفتاة تحولت لشدة قهرها ومعاناتها إلى صخرة ماتحا من الأساطير الغربية).

لكن نعود لنقول شكل الحوار في النص من طرف للا زوينة فقط للبحر ما يجعلها في خانة الواقعي بعيدا عن كل ما هو أسطوري.

إضافة إلى اختزال الجماعة وانصهار الذات داخلها، فعطفا على ذات الأنا “أنا للا زوينة” نجد حضور “الذات الجماعة” في “البنات” “يجيروني”  “يرزموني” فذاتها تذوب في جماعة كل الفتيات المقبلات على الزواج.

  • البعد الميتافيزيقي بين المكان والذات:

يحدد المكان بعناصره الجغرافية المجالية المحدودة على أرض الواقع، لكنه يحضر على مستوى المتخيل في علاقته الجدلية مع الإنسان متجاوزا كل الحدود الجغرافية ليعبر عن ذات قلقة، متوبثة، حالمة، تغوص في حكايا الماضي والرأسمال الرمزي المرتبط بالمكان وتندمج مع إحساس الذات بالغربة لتعطي قيمة ميتافيزيقية للمكان.

هنا في النص “للا زوينة” نرهف أسماعنا لرجع صوت الذات من دواخلها، ويتكشف البحر المفتوح على كل الدلالات ليتحول إلى قنطرة نحو المجهول .

“سري فيك عميق لا موجة جابت خبار”

وترفع عنه صفة الخطورة والموت إلى صفة القداسة والبركة وحضن لاستقواء النساء الضعيفات.

“أمولاي البحر”

تنادي البحر وتقرنه بكلمة “مولاي” دلالة على رفعة المنزلة، والتماسا للمقدس والبركة، فتنشأ علاقة تصل إلى حد التوحد والتماهي في مناجاتها رمزا من رموز القوة التي لم يستطع الإنسان ترويضها كباقي عناصر الطبيعة، فيجيد الإنصات “سري فيك عميق” ويتفاعل مع الخطاب “غير هياج عاتي” مصدرا هيجانا عاتيا لأمواجه منفلتا من العذاب اليومي، ومن الانكسار أمام امرأة آثرت الانتظار

يعلو صوت الذات “أنا للا زوينة” وهي تغوص في أعماقها ومتخيلها لا كمبعث لليقين بوجودية الذات، وإنما كتعبير عن ذاتية ينحرها القهر والغربة والألم.

“مقهورة”  “تكحل بدموعي”

فالذات هنا متباعدة عن نفسها، هي ليست ذاتا في ذاتها، قدر ما هي الذات الآخر، فيبرز ذلك التعالق بين الذات والبحر، فلا يغدو مجرد مكان خارجي عن الذات، بل وجودا داخليا تنشط معه حركة الخيال والذاكرة.

  • البعـد القـيـمـي

إذا كانت رمزية النضال والفعل البطولي والجهادي هي ما رسخ اسم للا منانة في المتخيل الشعبي المغربي العرائشي، وهذه الرمزية هي ما رفعها إلى مستوى الرمز الخالد الذي لا يخضع لحتمية الفناء، ويمنحها الحضور الدائم على مستوى المتخيل في سائر العصور، فإن رمزية الوفاء والحب والصبر والانتظار والأمل كقيم سامية ونبيلة هي ما سمت بشخصية موضوع المرددة النسائية “للا زوينة” إلى تبوئ مكانة في المتخيل العرائشي.

تتصدر النص قيمة الحب: كقيمة نبيلة وسامية بسمو الروح مترفعة عن دناسة الجسد ” على حبيبي يجيب خبار “.

قيمة الوفاء: ” تبرك بوفايا ” الوفاء والإخلاص لعلاقة لم تكتب لها البداية، ما منح لشخصية للا زوينة حق البركة والتبرك.

قيمة الانتظار: تعبر عنها اللازمة المتكررة التي تفيد التأكيد ” سنين ونا حداك أمولاي البحار” فلا أهمية للزمن في بعده التاريخي، المهم هو أن تنتظر والانتظار هنا هو قيمة سيكولوجية تستلزم من الذات الصبر والأناة، وهي رمز للصمود ودليل على عدم الاستسلام والانكسار أمام قوة الخصم الذي تكن له الوقار والقداسة.

قيمة الأمل: يرمز لها في النص ب” الشمعة” والشمعة هنا دليل ذلك البصيص من الأمل المتبقي لعودة الحبيب، والأمل موجود منذ بداية النص “سنين وحنا حداك” ويتوسط النص أيضا وينتهي به النص ولا تنتهي الحكاية

“تغرب النجوم”

تغيب النجوم إيذانا بإشراقة يوم جديد وخبر مفرح، ولن نغالي إذا قلنا أن تشبث المرأة “للا زوينة” بالأمل في الحكاية هوما ضمن حياتها على شفاه الذاكرة الشعبية.

  • البعد الدلالي والرمزي:

“ما كان في مقدور المجتمع أن يستمر لولا رمزيته” هذه الرمزية التي تتصدر النص في عنوانه “أنا للا زوينة” وبالضبط في كلمة “للا” فهي في الاستعمال العامي المغربي مؤنث “سيدي ومولاي” وتستعمل ضمن منظور أخلاقي يقوم على الاحترام والتوقير، ولا علاقة له بالتراتب الاجتماعي.

تستوقفنا أيضا “الصخرة” أو “الحجرة” شاهد عيان على قصة العشق التي لم تبدأ.

فالمرأة المغربية تمتح قوتها من صبرها وصمتها أي من ثقافة الصاد، ومن حرقتها وحزنها على الأحبة، ووجود الصخرة على الساحل مرتفعة عن باقي الصخور دليل على صلابة الموقف وعدم الاستسلام والفوز في المحنة والتشبث بالأمل والاستمرارية.

  • البعـد الأنثربولوجي:

يتجلى في المشهد الطقوسي الناطق بقوة في متن “للا زوينة’ والذي يحكي تفاصيله بدقة، هذه الطقوس التي تأخذ كمكان لها البحر لما يمتح من مرجعيات دينية وتاريخية صفة القداسة والبركة، إضافة لكونه رمزا للخصوبة والعطاء. فكلمة Mar السومرية تعني الرحم و “مريم” نفسها أو Mary اسم عام يطلق على إلهات الخصب، وتستمد الصخرة “للا زوينة” بركتها وقدسيتها من المكان الذي هو البحر. فصفتها الأساس أنها “محفورة” حتى تتمكن الفتيات الراغبات في الزواج – حسب المعتقد – من التخفي داخلها وأخذ نصيب من سبع موجات من البحر داخلها مع ترك شيء من ملابسهن الداخلية. تكتحل الفتاة وتغتسل بماء البحر وتحضيب الحناء – والحناء هنا أيضا رمز لجلب الحظ ودرء للسعد العاثر، متبركة بوفاء للا زوينة، ملتمسات للطهارة، راغبات في تبديد طاقاتهن السلبية – ذكر الملح في المتن – وتجديد الأمل

حجرة محفورة     لبنات مقهورة

تبسني في خشوعي    تـبـرك بـوخــايــــا

تكحل بدموعي    تغسل بعطوري

شــراوط هــدوبـي   عـقـيـقــي وكســايــا

تـحـنـي بــرجـايـا

 

في الحصول على زوج وذلك بإشعال شمعة في المكان “يشعلوا شمعة”، معتقدات أنه مكان لعلاج العنوسة.

تشتغل هذه الطقوس على رموز تتأرجح بين المكان (البحروالصخر) والألوان (الأبيض والأخضر) لمرجعتيها التاريخية والدينية التي تمنحها طابع المقدس كما تشتغل على الزمن “لعياد” وطبعا المقصود الأعياد الدينية، كونها تحمل أيضا نفس الطابع.

كما لا يجب إغفال الجانب الإبداعي الفني في المتن من حضور مكثف للاستعارة والتشبيه وغزارة في المحسنات البديعية من جناس وطباق وإيقاع ما يضمن لهذا النص استمراريته، وسهولة حفظه والحفاظ عليه كموروث ثقافي للأجيال القادمة.

ختاما، النص الذي قمنا بتحليله هو فن من فنون القول، والمرور من الشفهي على الكتابي كما يعتقد الباحثون يؤدي إلى بعض التحويلات، لكن نص “للا زوينة” قد نقل إلى الكتابة بشكل يضمن شفاهيته وخصوصا مع مزجه بإيقاع تجديدي يحمل مضمونا تراثيا، ما زاده قيمة مضافة ترمي إلى جلب وفتح الشهية – شهية الجيل الجديد – وانفتاحه على هذه النصوص التي تزخر بتاريخنا وهويتنا.

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات على مقاربة أنثربولوجية في المتن الشفهي “أنا للا زوينة” مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…