بقلم: مصطفى ملكيان**

بين يديّ محاور تم استخدام كلمة الدين فيها باستمرار. من تلك المحاور: العلاقة بين الدين وبين تخفيف الآلام النفسية للإنسان، قدرة الدين على إنتاج ونشر الاستقرار الفردي – الاجتماعي، دور الدين في تأمين بيئة اجتماعية مبتهجة، رؤية المتديّن لعملية العولمة. ربما من خلال كلمة الدين، ومن دون أية شروط مسبقة، لن نستطيع أن نتطرق إلى تلك المحاور. وأنا أطرح هذا الموقف لعدة أسباب. السبب الأول هو أنه في شأن كل محور من المحاور، ليس للأديان موقفا واحدا تجاهها. ففي كل محور هناك تفاوت في المواقف بين الإسلام واليهودية والمسيحية والزرادشتية والهندوسية والبوذية وغيرها.

السبب الثاني هو أنه توجد ثلاثة معان في ثنايا كل دين قابلة للمراجعة. فمثلا في الإسلام هناك «إسلام1» و»إسلام2» و»إسلام3». بالنسبة للمسيحية نفس الشيء وبالنسبة لغيرها أيضا. بعبارة أخرى، يجب أن نفكك ثلاثة مجالات عن بعضها البعض داخل كل دين ومذهب. بمعنى أننا حينما نتحدث عن الإسلام، قد يكون القصد من ذلك هو مجموعة النصوص المقدسة الدينية والمذهبية للمسلمين، فنسمي ذلك “إسلام1″وقد يكون قصدنا هو الشرح والتفسير والبيان والتبيين تجاه «إسلام1» خلال 1400 عام، ونسمي ذلك «إسلام2»، أي هو التراث الثقافي للمسلمين الذي تم جمعه خلال 14 قرن، حيث نجد آثار ذلك عند الفقهاء وعلماء الأخلاق والمتكلمين والفلاسفة. وهناك «إسلام3» وهو عبارة عن ممارسات المسلمين خلال 1400 عام والنتائج المترتبة على تلك الممارسات، أي الإسلام في مقام الممارسة.
لا شك أن هذه المعاني الثلاثة ترتبط مع بعضها البعض، لكن في نهاية الأمر هي ثلاثة أشياء. ومتى ما أردنا أن نقول بأن الإسلام يوافق أو يخالف أمرا ما، يجب أن نوضح أي إسلام من الثلاثة نقصد. كما أن ارتباط المعاني الثلاثة مع بعضها البعض هو كارتباط الرياضيات بالفيزياء والفيزياء بالرياضيات، إذ ذلك لا يعني أن هذين العلمين هما علم واحد. فإذا أردنا أن نسأل عن العلاقة بين الدين وبين تخفيف الآلام النفسية للإنسان، يجب أيضا أن نسأل: أي إسلام نقصد، هل نقصد «إسلام1» أو «إسلام2» أو «إسلام3»؟.

النقطة الأخرى التي تجعلنا نواجه عراقيل أخرى في الفهم، تتمثل في وجود تصورات مختلفة عن كل دين. فهناك تصورات مختلفة عن الإسلام تدخل ضمن «إسلام2». ما أريد أن أقوله إن الأديان تختلف مع بعضها البعض، وفي داخل كل دين هناك اختلاف في دين1 ودين2 ودين3، فلا يوجد لدينا دين2 واحد، أي هناك تصورات مختلفة في دين2 لكل دين. وإذا قلنا بأنه يمكن تسكين الآلام النفسية للإنسان عن طريق الدين، ولم يكن قصدنا من ذلك جميع الأديان وكان مرادنا هو الدين الإسلامي، ولم يكن قصدنا «إسلام1» ولا «إسلام3» بل «إسلام2»، أيضا يجب أن نسأل: أي «إسلام2»، هل نقصد إسلام العرفاء أم إسلام الفقهاء، من أنه يساهم في تسكين تلك الآلام؟ أي أننا مارسنا التصنيف حول «إسلام2»، وبالطبع يمكن القيام بهذا التصنيف إزاء الأديان الأخرى. فيمكن تقسيم «إسلام2» إلى ثلاثة أقسام: «إسلام2» الأصولي، «إسلام2» المتجدد (أو الحداثي)، «إسلام2» التقليدي. فحينما نقول «إسلام2» فأي إسلام نقصد من هذه؟ فالثلاثة يمثلون «إسلام2»، والإسلام الأصولي يختلف عن الإسلام التقليدي، والإسلام التقليدي يتفاوت مع الإسلام المتجدد (الحداثي) ولا نستطيع أن نطلق حكما واحدا عليهم. لذا أول اقتراح اقترحه هنا أنه حينما نريد طرح مثل هذه المناقشات، يجب الالتفات إلى التفكيك الثلاثي الذي تمت الإشارة إليه، ويجب التأكيد على أن الأديان تختلف مع بعضها البعض، وأن في داخل كل دين هناك فرق بين دين1 ودين2 ودين3، وفي داخل دين2 هناك تصورات مختلفة، لذا لا يمكن إطلاق رأي واحد على الجميع.

الموضوع الآخر الذي يجب الإشارة إليه هو أنه إذا كان الدين اليوم هو بمعنى الدين التاريخي، فذلك سوف يبعدنا عن امتلاك الإجابات الضرورية الخاصة بالأسئلة المتعلقة بمشكلات إنسان اليوم. فإنسان اليوم يواجه العديد من المسائل النظرية، وأمامه الكثير من المشكلات العملية، والدين التاريخي غير قادر على حلّ تلك المسائل والمشكلات لا نظريا ولا عمليا، بل يفتقد إمكانية ذلك. إنسان اليوم إنسان حديث (modern) هو إنسان الحداثة ((modernity، ولا يمكن تجاهل وجود فرق كبير بينه وبين إنسان ما قبل الحديث. فاليوم، سواء أردنا ذلك أم لم نرد، وسواء رحّبنا بذلك أو لم نرحّب، نعيش في ظل الحداثة. هي تتوسع وتنتشر، ومستمرة في تحرير المناطق. وباستثناء بعض القوميات والقبائل البدوية التي تسكن في مناطق معزولة في استراليا وفي أفريقيا، أصبحت بقية المجتمعات على اختلاف مراتبها ومشاربها حديثة. والحداثة تقتضي وجود اختلافات حقيقية مع الإنسان ما قبل الحديث، وقد أثّرت تلك الاختلافات على حل المشكلات، ومن ثم أصبحنا لا نستطيع تبنّي ادّعاءاتنا التاريخية التي كانت تدّعي بأن الأديان التاريخية تستطيع أن تحل مشكلات الإنسان ما قبل الحديث، لكننا نستطيع اليوم أن نقول وبكل جرأة بأن الحداثة قادرة على حل مشكلات الإنسان الحديث.

باعتقادي، يجب أن نركز اليوم على مفهوم المعنوية (spirituality)، أو ما يسمى بالقيم الروحية، التي لا تختلف بالضرورة مع الدين، بل بتعبير آخر هي جوهر جميع الأديان. وهذا لا يعني بتاتا بأننا بصدد انتهاك حرمة الدين، بل يعني بأننا قد وصلنا إلى لب وجوهر الدين. وسواء اعتبرنا المعنوية جوهر الدين، أو اعتبرناها ظاهرة والدين ظاهرة أخرى، إلا أن ما يمكن أن يساهم اليوم في فك عقدة المشاكل وفي حل المسائل، هو المعنوية. المعنوية بالنسبة لي هي جوهر جميع الأديان. ويمكن من خلالها التعاون والعمل مع الإنسان الحديث. في حين من الصعب تحقيق هذا التعاون مع الدين التاريخي. نسعى دائما لإصلاح أمر ما، لكننا لا نريد أن نعترف بأن هذا الأمر غير قابل للإصلاح. نردّد باستمرار بأنه ماذا لو تنازلنا قليلا هنا أو قليلا هناك. بل لماذا لا نعترف صراحة وبكل صدق بأننا لا نستطيع عن طريق الدين التاريخي أن نحل المسائل والمشكلات التي تواجه الإنسان الحديث. لذا يجب الخوض في جوهر الدين، الذي هو المعنوية. وأنا شخصيا لم أعد أستخدم كلمة الدين لمناقشة مثل هذه المسائل، بل أستخدم كلمة المعنوية. ودائما أقترح أن نجمع بين العقلانية والمعنوية باعتبار أن ذلك هو الطريق الوحيد لخلاص إنسان اليوم، بمعنى أنه يجب أن لا نضحي بالمعنوية من أجل العقلانية، ولا نضحي بالعقلانية من أجل المعنوية. وحين أستخدم كلمة المعنوية هنا فهو ليس بمعنى رفض التديّن بل بمعنى أهمية التديّن المعنوي.

أستطيع شرح هذا الموضوع بصورة أخرى. أليس كل صور خيبة الأمل، اليأس، الاضطراب، القلق، الخوف، الحزن، الندم، الشعور بأن الحياة لا معنى لها، فقدان الراحة النفسية، الانشغال بالمشاكل الشخصية، هي صور نراها اليوم وموجودة في الإنسان المتصف في ظاهره بالتديّن؟. قسم كبير من الناس في هذا العالم (يقرب عدد البشرية اليوم من سبعة مليارات نسمة) يعاني من اضطرابات وخيبة أمل وحزن، والحياة بالنسبة إليهم لا تحمل أي معنى ومن ثم لا يشعرون بأي راحة نفسية، رغم أن جميع هؤلاء متديّنون حسب ما هو ظاهر من سلوكهم. إذاً، لماذا يعاني هؤلاء من تلك المشكلات؟ يتضح إذاً أن الدين التاريخي لم يستطع أن يساهم في حل تلك المسائل والمشكلات. فالذين يقدمون على الانتحار، هم متديّنون وينتحرون. والذين يظلمون الناس هم متديّنون. والذين يرتكبون الجرائم ويمارسون القتل والتعذيب، هم متديّنون. وجميع هؤلاء ليسوا على استعداد للتراجع عن سلوكهم هذا. لكن الإنسان المعنوي لا يعاني من خيبة الأمل ولا يشكو من عدم الاستقرار ولا يئن من فقدان السعادة، الحياة بالنسبة إليه لها معنى، تجلب له الراحة النفسية. وبما أن المعنوية هي التي تحقق ذلك لا الارتباط بدين أو بمذهب معيّن، لذا أعتقد بأن الارتباط بالدين لا أهمية له بتاتا.

حول هذه النقطة ركّزتُ على أمرين: الأول أن الإنسان الحديث يختلف عن الإنسان ما قبل الحديث، ويلي ذلك اختلاف مسائل ومشكلات كل طرف. الثاني أن الدين التاريخي لا يستطيع أن يحل مسائل ومشكلات الإنسان الحديث، وأبرز دليل على عدم استطاعته هو وجود متديّنين لديهم مثل تلك المشكلات. فإذا كان هناك من يصلي ويصوم ويحج، لكنه يعاني من خيبة الأمل ويئن من فقدان الراحة النفسية والسعادة والسلام ويشكو من أن حياته لا معنى لها، سنصل إلى نتيجة مفادها أن الدين التاريخي لم يستطع أن يهيئ لهذا الإنسان: الراحة النفسية، معنى للحياة، الأمل، السعادة، السلام. لكن ظاهرة المعنوية تستطيع أن تحقق هذا الأمر. إذا كنا نريد أن نساعد إنسان اليوم في حل المسائل والمشكلات التي يعاني منها، يجب أن ندفعه نحو المعنوية، أي نحو ذلك الشيء الذي نقول عنه بأنه جوهر الدين، وليس دفعه نحو قشور الدين التي بدورها لا تستطيع حل أي مسألة أو مشكلة. جميع الأديان والمذاهب، بما فيها الشرقية والغربية، متشابهة في هذا الإطار ولا يوجد أي فرق بينها. حينما نقتل، نعذّب، نظلم بعضنا البعض، فنحن مسلمون من نقوم بهذا العمل. يتبيّن إذاً أن إسلام أي شخص لا يستطيع أن يكون إطارا لحل مسائل ومشكلات إنسان اليوم. ينطبق الأمر نفسه على المسيحية وعلى الأديان الأخرى.

نقطة أخرى أردتُ عرضها وتتمثل في الآتي: لكي نجعل الإنسان معنويا، لا نستطيع أن نبدأ بإنجاز ذلك بمطالبته بترك دينه. هذه المطالبة ليست صائبة ولا مصلحة فيها. فلا نستطيع أن نقول لإنسان اليوم المتديّن، أكان مسيحيا أو مسلما أو منتميا لدين أو مذهب آخر، بأنه يجب أن تصبح معنويا، وحينما يقبل بذلك ندعوه ليترك دينه. إنما نستطيع أن نجعله معنويا من خلال خطوات متأنية متتالية. فالمعنوية تعني إضفاء نوع من العمق على فهم الدين. لكن كيف نقوم بذلك؟ مثلا، حينما نطرح مسألة التربية والتعليم الديني (في إيران) سنجد بأن المناهج التي استندت عليها رسخت ست مصائب في أذهان المتعلمين، لذا لابد من رؤية جديدة وإنجاز عملي جديد يطرد تلك المصائب. وهي: 1- الأنانية (narcissism) 2- التحيّز ((prejudice 3- التعصّب (fanaticism) 4- الدوغمائية والجزمية (dogmatism) 5- عبادة الخرافة (superstitionism) 6- اللامداراة (intolrrance) وعدم التسامح تجاه الآخر الذي يرفض عقيدتنا. وللأسف، لم ينجز أي عمل من شأنه أن يبعد مؤسسة التربية والتعليم ومناهجها عن هذه المصائب. فبسبب تلك المؤسسة، أصبح أطفالنا أنانيين، متحيّزين، متعصّبين، دوغمائيين، يعبدون الخرافات، غير متسامحين وغير متساهلين تجاه المختلفين معهم في العقيدة وفي المذهب. إذا استطعنا معالجة تلك الأمور الستة نكون قد وضعنا أول قدم في طريق تغيير المتديّنين وتحويلهم إلى معنويين، ونكون قد قرّبنا دينهم نحو المعنوية.

النقطة المهمة الأخرى في هذا الإطار، أنه بالإضافة إلى المسائل الست، يجب الانتباه إلى أن العبادة تتعارض مع فطرة الإنسان السليم، أي تتعارض مع الطبيعة البشرية المشتركة، وعليه يجب الاكتفاء بالعبادة في حدها الأقل. العبادة ليست ذلك الشيء الذي نريد أن نوسّع إطاره باستمرار. شكل الاستدلال في العبادة هو أن يقول شخص بأن “ألف هي باء” وحينما نسأل هذا الشخص ما دليلك على أن “ألف هي باء”؟ يقول دليلي هو أن x قال بأن “ألف هي باء”.

هذا الاستدلال هو استدلال تعبّدي أو هو منطق المتعبّدين. فالعبادة وفق هذا المعنى هي خلاف العقل السليم والفطرة النقية. وبما أن هذه هي النتيجة، يجب الاكتفاء بالعبادة في حدّها الأدنى والتقليل منها بقدر الإمكان. وحينما أقول بقدر الإمكان فهو لمجرد أن أشير إلى وجود عبادة في الدين السماوي، ما يمكّنني من منع زيادة جرعة العبادة. لقد ذكرت مرارا بأن الشيعة يؤمنون بوجود 14 معصوم (هم عبارة عن نبي الإسلام وابنته فاطمة وزوجها الإمام علي بن أبي طالب و11 من ذريتهما بدءا من الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب وانتهاء بالإمام المهدي الغائب). تعني هذه العبارة أن علاقة الشيعة بهؤلاء الـ14 هي علاقة تعبّدية، أي أن الشيعة ملزمون الأخذ بأقوال وأوامر المعصومين دون أي نقاش. وعمليا هناك 140 ألف معصوم في إيران. ففي الوقت الراهن ليس بمقدوري معارضة رجل الدين في الحي الذي أسكن فيه. وإذا ما عارضته، سينظر الناس إليّ على أنني من أصحاب البدع وفاسد العقيدة، وبالتالي منكر لوجود الله والدين والمعاد. وعلى الرغم من توسّع نطاق تعبّد الناس يوما بعد آخر، لكنهم غير واعين بأن ذلك ليس صوابا ولا مصلحة فيه، بدليل أن الإنسان الحديث لا يستطيع أن يقوم بذلك.

لذا أحد الأمور التي ينبغي أن نمارسها من أجل نشر المعنوية، أو نشر القيم الروحية، هو أن نقلل العبادة لأدنى حد ممكن. من هنا نصل إلى النقطة اللاحقة وهي دعوة الناس إلى حياة “صادقة أصيلة حقيقية” (unfeigned) لا إلى حياة “غير مباشرة” وكأننا نعيشها نيابة عن شيء (vicarious). ففي الحياة الأصيلة يكون الإنسان مخلصا لنفسه، أو بعبارة أبسط يمارس حياته وفق فهمه لا وفق شيء آخر.

الهامش:

*هو أحد عناوين نصوص كتاب المفكر الإيراني مصطفى ملكيان، الصادر عام 2015. عنوان النص بالفارسي: “دين وبحران معنا در جهان جديد” (الدين وأزمة المعنى في العالم الجديد). اسم الكتاب: “در رهگذار باد و نگهبان لاله” (في مهب الريح وحامي زهرة التوليب) الصادر عن دار “نشر نگاه معاصر” – الطبعة الأولى 1394 هجري شمسي (2015 ميلادي).
**مفكر إيراني مهتم بأفكار العقلانية والمعنوية.

(عن “الأوان”http://alawan.org/article15137.html)

التعليقات على الدّين وأزمة المعنى في العالم الجديد* مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…