عبد الكريم جويطي

هذه رسالة وجهها الروائي والناقد عبد الكريم الجويطي إلى رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، يحكي له فيها معاناته في الحصول على دواء. وقد اختار لها الكاتب المغربي عنوان: “إلى السيد رئيس الحكومة  نزلوا الدواء قبل تنزيل الدستور..”.

ترددت لثلاث سنوات كاملة قبل أن أقرر توجيه هذه الرسالة لكم، السيد رئيس الحكومة، ومن خلالكم إلى أعضاء الحكومة وللبرلمانيين وللرأي الوطني، نيابة عن المرضى، وذويهم، ممن قدر لهم أن يصابوا بداء مزمن، مثل القصور الكلوي، وتضطرهم تبعاته وخصوصا فقر الدم والحاجة الدائمة لأخذ دواء يتضمن مادة ERYTHROPOIETINE التي تنشط داخل ذات المريض عملية صناعة الكريات الحمراء، ولأن الدواء باهض الثمن، فكل المرضى يضطرون لطلبه من صيدلية التعاضدية بالرباط.

وأنتم نائمين السيد رئيس الحكومة، ومن كل مناطق المغرب بما فيها النائية جدا، يستقل مئات المرضى الذين من المفروض ان يبقوا في أسرتهم، وتحت رعاية صحية متواصلة أو بعض ذويهم حافلات أو قطارات أو سيارات خاصة في رحلة ليلية معذبة ليصلوا في الساعات الأولى للرباط . ومن المحطات ينتقلون لبناية التعاضدية، مسلحين بملفاتهم يعتصرهم في وهنهم خوف ألا تكون ملفاتهم كاملة ورعب ألا يجدوا الدواء. إنه أسوء يوم في ثلاث أشهر بالنسبة للمرضى وذويهم تمرغ فيه كرامتهم في وحل بيروقراطية غبية تفتقد لذرة واحدة من الإنسانية. ولتقريبكم من وقائع العذاب المتكررة . ولأن حالة واحدة ستلخص لكم آلاف الحالات، سأحكي لكم ما وقع لي في آخر رحلة لتعلموا ما نكابده، وبعد معرفتكم سنرى ما أنتم فاعلون .

خرجت من مدينة بني ملال في الخامسة صباحا، وكنت في الرباط في الساعة الثامنة والنصف، وانتظرت مع المنتظرين حتى يحين دوري، وحين دخلت عند الموظف المكلف بتسلم الملفات، وبوحي من تجاربي السابقة، سألت عن الدواء الموجود في الصيدلية هل هوEPREX أم RECORMAN؟ وكنت أحمل معي، من باب الاحتياط، وصفة طبية لكلا الدواءين، فنصحني بسؤال أحدهم يسمى ك. (ها أنتم ترون أننا نعرف الموظفين بأسمائهم وامزجتهم وردود أفعالهم، ونحذر غضبهم. نحن لا نرى الموظفين الكبار الذين يأذنون بإعطاء الدواء أو الحرمان منه، فهم في أولمب الطبقات الفوقية، لا نراهم ولا نكلمهم، هناك حارس خاص يمنع صعود غير الموظفين للأولمب، إنهم مثل كائنات قصر كافكا الغامضين والمهيبين الذين يصنعون أقدار الناس وفق تدبير ميتافيزيقي، ترى فيه القرار والحكم الصادر في حقك، ولا ترى مصدره، وأنى لك ذلك؟ سألت السيد ك. فقال لي RECORMAN موجود، فعدت  وانتظرت دوري، وحين دخلت عنده، طلب مني القيام باستنساخ الوصفة، فخرجت لحانوت قريب  وانتظرت دوري حتى أنجزت النسخة، وعدت عند الموظف، وانتظرت دوري مجددا، وسلمته الملف، وأعطاني وصلا، وطلب مني العودة عند الساعة الثالثة بعد الزوال. همت على وجهي في الرباط، كما يفعل كل طالبي الدواء ومبرداتهم في أياديهم. وفي الساعة الموعودة، كنت انتظر مع المنتظرين، وكلما نزل موظف من الأولمب تشرئب الأعناق، وتخفق القلوب. حصلت على ملفي وكان رأي الأولمب ايجابيا. وبعد أن خرجت وقمت بانجاز النسخ اللازمة، عدت لأخذ دوري ليعطونني الإذن بأخذ الدواء. وبعد الانتظار قرابة الساعة والنصف، وفي تمام الساعة الخامسة أخبرتني الموظفة المكلفة بان RECORMAN غير موجود والدواء الموجود هو EPREX. عدت عند الموظف وانتظرت دوري نصف ساعة أخرى، وعرضت عليه أن يعد لي ملفا آخر بما أنني أحمل ملف EPREX احتياطيا. فأخبرني أن الطبيبة التي تؤشر على الملفات قد خرجت، وعلي أن أنتظر إلى الغد لأجرب حظي مع EPREX، ربما حين أتسلم الملف تكون متوفرة في الصيدلية. آنذاك سمعت رجلا أسمرا جاء من الراشيدية تظهر عليه علامات المرض، ولا يقوى على الوقوف، يصيح من صدمة المتاهة التي وجد نفسه عالقا فيها: “عاش الملك، عاش الملك، اللهم إن هذا منكر. وعباد الله ثلاث أيام وهم يتلاعبون بي”، وفهمت أنه هو أيضا تعرض لما تعرضت له، نفرت دموع من عيني وخرجت..

هذا هو المغرب المريض المجهد اليائس، السيد رئيس الحكومة، الذي تنهش جسده أمراض لعينة، ولا يقوى على المزاحمة بالمناكب في مؤتمرات بوزنيقة، بل لا يقوى على رفع صوته من الإجهاد ليناقش أولوياتكم وإصلاحاتكم ومخططاتكم، ولا أرجل له ليسير في مسيرات أمام البرلمان تنبهكم لواجباتكم تجاهه، ولا أصابع له لكتابة العرائض إليكم، هذا المغرب ذو الوجه المربد الذي يريد منكم وقبل أن تحاربوا التماسيح والعفاريت، وأن تجهدوا أنفسكم في إعداد القوانين لتنزيل الدستور، بأن ترحموه، وتنزلوا له الدواء فقط، الدواء أولا، والدواء أخيرا..

لعلمكم السيد رئيس الحكومة، بأن هذه ليست بغلة تعثرت وستسألون لماذا لم تهيئوا لها طريقا في مكان بعيد، إنها أرواح آدمية على بعد مئات الأمتار من مكتبكم، تصطدم بصخرة لامبالاة غريبة، أرواح معذبة حوّل بعض الساديين عملية حصولها على الدواء إلى لعبة حظ مقيتة: أنت وحظك فقد تجد الدواء وقد لا تجده، ولا يهم المال الذي صرفته، ولا الوقت ولا تعبك، ولا الهيئة الكسيفة التي ستعود بها، ولا نظرة مريضك وأنت تخذله و تعود له بيدين فارغتين، ولا يهم تفاقم حالته، ولا تهم حتى صخرة سيزيف (600كلم ذهابا وإيابا) التي عليك أن تدحرجها مرة أخرى بعد يوم أو يومين، ويدك على قلبك..

السيد رئيس الحكومة، كيف تريدون أن نثق بأن المغرب يبني حقا جهوية موسعة، ونحن نأتي من كل حدب وصوب لنأخذ دواء توصله الدول الأخرى، بما فيها النامية، لمرضاها حتى مصحاتهم ؟ كيف تريدون أن نثق في أن حكومتكم تعتزم حقا أن تستثمر الملايير التي اقتصدتها من إصلاح صندوق المقاصة في تحسين أحوال المواطنين، ونحن بالقرب منكم نعذب بالانتظار، وفي آخر النهار يقال لنا لا دواء، ولا نجد من يشرح لنا – مجرد الشرح – هذا العبث العظيم؟

السيد رئيس الحكومة، لقد اخترت ان أخاطبكم باسم المرضى وذويهم، وتلاحظون انني لم أذكر أولئك الذين يشكلون المجلس الإداري للتعاضدية ولا من يسيرها، وذلك لأنني، وطيلة عشرين سنة، وأنا أقوم برحلة العذاب هذه، لم أر في هذه المدة الطويلة عضوا منهم يتفقد الخدمات ويتواصل مع المنتظرين، أو يفسر لهم لماذا يعاملون بهذه الطريقة ، لم أر مسؤولا واحدا يتكرم بتفقد أحوالنا ونحن نتفسخ في انتظارنا . ولعل الشجرة التي ظهرت من فساد التعاضدية، وما زال القضاء ينظر فيها، والغابات التي شملتها رحمة (عفا الله عما سلف) تثبت أنهم منشغلون بأشياء أهم من التفكير من إنشاء اثنتي عشر صيدلية في جهات المملكة، وتجنيب آلاف الناس عذاب السفر للرباط وإهانات تسول الدواء من صخرة صماء.

 

التعليقات على هذا هو المغرب المريض.. لا أرجل له ليسير في مسيرات أمام البرلمان مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…