فهم ما يجري فينا وحولنا ضروري ومقدمة لحل مشاكلنا واقتراح بديل . قمت بترجمة هذا المقال وأرجو أن تتم قراءته وإثارة النقاش حوله واقتسامه بكثافة من أجل أن يصل إلى أكبر عدد من الناس.

جان زيگلير   JEAN ZIEGLER

ترجمة المصطفى المعتصم

maxresdefault

وارن بوفيت Warren Buffett مصنف من طرف المجلة الأمريكية فوربس Forbes كواحد من الرجال الأكثر ثراءً وغنى في العالم. منذ سنوات صرح هذا الرجل لـ CNN: “صراع الطبقات موجود طبعا، لكن طبقتي، طبقة الأغنياء، هي من تمتلك المبادرة. ونحن بصدد كسب هذه الحرب”(1)

تبتدئ مقدمة ميثاق الأمم المتحدة بهذه الكلمات: “نحن شعوب الأمم المتحدة… وعلى الأمم المتحدة وتحديدا على الدول الحليفة التي وقعت على هذا الميثاق في 26 يونيو 1945 بسان فرانسيسكو، تقع مهمة حماية وضمان المصالح الجماعية للشعوب، والرفاه العالمي”.

لكن هذه المصالح  تهاجم اليوم من كل الجهات من طبقة الأغنياء، طبقة وارن بوفيت Warren Buffett. فقد تم إفراغ الدول من قدرتها المعيارية ومن فاعليتها. حيث أصيبت بالضربة القاضية (K-O) من قبل أصحاب رأس المال  المعولم.

لقد كنت عضوا في اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة (2) منذ 2008 والتي لها اختصاصات مزدوجة:

المراجعة الدورية لسياسة حقوق الإنسان في الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، وضع معايير جديدة للقانون الدولي عندما تفرضها وضعيات/ ظروف  جديدة غير مسبوقة.

ولدى مجلس حقوق الإنسان هيئة فرعية هي اللجنة الاستشارية. وتتألف من 18 خبيرا (من بينهم 3 من مجموعة الدول الغربية)، مهمتها القيام بالتحقيق في القضايا وتكوين الملفات وصياغة المقترحات للمجلس. ليس لديها سلطة القرار. ويعين المجلس أعضاء اللجنة الاستشارية بناء على اقتراح من دولهم الأصلية، غير أن ولايتهم ليست حتمية (impératif).

لقد كانت آخر مهمة لي في هذه اللجنة  ضد “صناديق النسور” les fonds vautours داخل الأمم المتحدة، تجسيدا لهذه الاختصاصات بشكل براغماتي. أعترف أنني لم أكن يوما “محايدا” أثناء مزاولتي لوظيفتي. فحقوق الإنسان سلاح رائع بيد أولائك اللذين يريدون تغيير العالم وتخفيف معانات الآخرين وتكسير أيادي المفترسين. ومن أجل أن نتقدم، إنها معركة تتطلب بناء تحالفات. ففي صراع الطبقات العالمي، حرب الأغنياء على الشعوب، التي دعا إليها وارن بوفيت Warren Buffett  يجب على المرء أن يختار  معسكره.

شعوب الدول الفقيرة تقتل نفسها في العمل من أجل تمويل تنمية الدول الغنية. الجنوب يمول الشمال وتحديدا الطبقات المهيمنة في دول الشمال. وأقوى الوسائل الهيمنة اليوم هي خدمة الدَّيْن. ففائض تدفقات رؤوس الأموال من الجنوب في اتجاه الشمال يفوق بكثير تدفقات رؤوس الأموال من الشمال  إلى الجنوب.

والدول المصنفة “فقيرة ” تدفع سنويا من الأموال للطبقات الحاكمة في الدول الغنية أكثر مما تحصل عليه منها على شكل: استثمارات، ديون، مساعدات إنسانية أو المساعدة المخصصة لما يسمى “التنمية”. خدمة الدين يبقي الشعوب عبيدا وينهب ترواثها.

وقد تفاقم هذا النهب في العقود الأخيرة مع ظهور “الصناديق النسور” ، التي سميت بذلك بسبب طابعها المفترس والقمقام  (rapace et charognar). وهي صناديق استثمارات المضاربة، المسجلة في الملاذات الضريبيةles paradis fiscaux والمختصة في إعادة شراء الديون بثمن أقل بكثير من قيمتها الاسمية valeur nominale، بهدف الحصول على أكبر قدر من الأرباح. صناديق المضاربة هذه spéculatifs توجد في حوزة أفراد فاحشي الثراء، ويعتبرون من المفترسين الأكثر فظاعة في النظام الرأسمالي. هؤلاء المفترسون لديهم غنائم حروب بالملايير من الدولارات وتحت إمرتهم كتائب من المحامين القادرين على رفع دعاوى في القارات الخمس، لمدة عشر أو خمس عشرة سنة إذا لزم الأمر.

“صناديق النسور” هذه تقتل. وإليكم نموذجا فاضحا: في 2002، وبعد جفاف مرعب، أدت المجاعة إلى وفاة عشرات الآلاف من البشر في الملاوي. ومن بين 11 مليون من السكان في هذا البلد الموجود في الجنوب الشرقي من إفريقيا، 7 ملايين كانوا يعانون من سوء التغذية. وكانت حكومة الملاوي عاجزة كل العجز عن إعانة الضحايا، لأنها باعت شهورا من قبل مخزوناتها الاحتياطية من الذرة (40000 طن!) من أجل تنفيذ حكم بعشرات الملايين من الدولارات حكمت به محكمة بريطانية لفائدة صندوق نسر…

الصحفي في الفينايشل تايمز، مارتن وولف Martin Wolf،  والذي لا يمكن تصنيفه بالثوري، كتب: “تسمية هذه الصناديق بصناديق النسور هي سبة في حق النسور لأن هذه الطيور القمقامة آكلة الجيف تلعب دورا نافعا”. هو على حق: فالنسور تنظف الجيف الميتة في براري السافانا وتمنع بذلك انتشار الأوبئة…

بتحريض من الأرجنتين، التي تعتبر من بين ضحايا صناديق النسور، طالب مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، اللجنة الاستشارية، من خلال القرار 27/30 الصادر بتاريخ 26 شتنبر 2014، بتقرير يجيب عن السؤال المزدوج التالي: “إلى أي مدى وبأية طريقة تنتهك أنشطة صناديق النسور الحقوقَ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب التي تتعرض للهجوم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو المعيار الجديد للقانون الدولي اللازم وضعه لجعل حد لهذه الأنشطة؟”

عُيِّنْتُ مقررا للجنة للإجابة على هذا السؤال المزدوج. ونادرا ما اشتغلت في حياتي بمثل الوتيرة التي اشتغلت بها في 2015/2014 (أي السنتين التي كنت فيهما مقرر اللجنة). في 15 فبراير 2016 وضعت تقريري. شرحت فيه أن أنشطة صناديق النسور تتعارض بحكم تعريفها مع قواعد حسن النية الموجودة في كل تشريعات دول العالم. وكشهادة على ذلك مثلا، التشريع المدني السويسري: “يطلب من الجميع ممارسة حقوقهم وأداء واجباتهم وفقا لقواعد حسن النية. ولا يحمي القانون الإساءة الواضحة لحق ما”   (art. 2B, al. 1 et 2).

قصر الأمم في جنيف، ومنظمة الأمم المتحدة على العموم، تعج بالجواسيس. كل الأجهزة السرية في العالم، خصوصا تلك المرتبطة بالقوى العظمى، تتصنت على المكالمات الأكثر سرية وتأمينا، جواسيس يستنسخون الوثائق، يرشون الموظفين ويتحركون تحت غطاء ديبلوماسيين معتمدين. ومن الطبيعي، إذن، أن يكون العملاء السريين لأجهزة الاستخبارات الغربية وحتى غير الغربية قد اضطلعوا من خلال التصنت على  مكالماتي الهاتفية على تفاصيل ما كنت أقوم به من عمل.

وقد كان مفترضا أن يحصل التصويت في مجلس حقوق الإنسان في دورة شتنبر 2016، وكانوا يعرفون توصياتي كما يعرفون أن هناك احتمال كبير في أن يتبنى المجلس تلك التوصيات. وأعداؤنا كانوا واعين جيدا باحتمال هزمهم. لدى انطلق جرس الإنذار في قلعة السفارة الأمريكية، والتي توجد على بعد مئات الأمتار من قصر الأمم  ببريني Pregny.

غير أعداؤنا  تكتيكهم إذن. أخلوا الميدان الأممي، وانصبوا على تكتيك قديم غير معقد أبان عن فاعليته: الرشوة. في  ديسمبر 2015 عرفت الأرجنتين انتخابات. وكان المرشح المعين من تحالف اليسار  قد تعهد بمتابعة المعركة ضد صناديق النسور. كل استطلاعات الرأي التي جرت كانت تخلص إلى أنه  الأكثر حظا للفوز بالانتخابات. لكن تم هزمه من طرف سياسي محلي من اليمين. هذا السياسي اليميني أنفق مبالغ مالية خيالية للفوز بالانتخابات. وبمجرد أن فاز بها فإن الرئيس الأرجنتيني الجديد موريسيو ماكري Mauricio Macri، صرح بنيته الاستجابة من دون تأخير لكل الطلبات المقدمة من طرف صناديق النسور. وهذا ما تم فعليا!.

ازدهار صناديق النسور يجسد بشكل كاريكاتوري قوة الأغنياء. تكدس الثروات الكبيرة في يد أقلية صغيرة، وتقود بالتالي إلى عدم المساواة التي تلي ذلك التكدس، ليسا ممكنين سوى من خلال تصفية معيارية الدول، ومنع مراقبة الأبناك، ومأسسة الاحتكارات الخاصة، وانتشار الملاذات الضريبية، الخ. عدم المساواة هذه تؤدي لا محالة إلى تدمير علاقات الثقة بين المواطنين وحكامهم. فحينما تفلس الدول ويحكم العالم  أوليغارشيون قساة، لا توجد في قلوبهم ذرة من رحمة  ولا يقيمون أي اعتبار للقانون، حينما يعوض نظام قاتل دولة القانون، من سيستطيع بعد ذلك الادعاء بأنه سيحمي الممتلكات العمومية والمصالح العامة؟

وكما كتب السوسيولوجي الألماني يورغن هابرماسJürgen Habermas: “طرد السياسة من طرف السوق يترجم بفقدان الدولة الوطنية تدريجيا قدرتها على تحصيل الضرائب. في الحقيقة فإن الدولة الوطنية تفقد تدريجيا قدرتها على تحصيل  الضرائب، وتحفيز النمو، وبالتالي توفير الأساس الضروري لشرعيتها، ولا يعوض هذه الخسارة أي مكافئ وظيفي (…)

وفي مواجهة خطر هروب رؤوس الأموال، تشرع الحكومات الوطنية في الاندفاع المجنون لإزالة القيود التنظيمية من خلال خفض التكاليف، مما يؤدي إلى أرباح فاحشة وفجوات في الأجور لم يسبق لها مثيل، وارتفاع البطالة والتهميش الاجتماعي لساكنة فقيرة في تزايد مستمر. ومع تدمير الظروف الاجتماعية للمشاركة السياسية الواسعة، فإن القرارات الديمقراطية، حتى لو صحت شكليا فإنها تكون فاقدة  لمصداقيتها (3)”.

هابرماس يطرح، في أعقاب سؤال انتقال السيادة: هل هناك مؤسسات بين الدول، قادرة على تعويض الدول الفاشلة والاضطلاع بمهمة حماية الصالح العام؟ هابيرماس يفكر بالأخص في أوروبا. أنا لا أتفق معه. ويبدو واضحا لي أن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يدعي قب “الديمقراطية القارية”.

فكما هو منظم  اليوم – ومهما كانت طموحات مؤسسيه – فالاتحاد الأوروبي هو أساسا منتدى لتطهير وتنسيق وتعزيز مصالح الشركات الخاصة عبر الوطنية. وهناك علامات عديدة تشهد على ذلك، بدءا من حقيقة أن المفوضية الأوروبية يرأسها اليوم جان كلود يونكر، الذي يتولى، بتماه كاريكتوري، دوره كخادم جيد للرأسمال العابر للقارات. بين 2002 و2010، كان الرجل رئيسا للوزراء ووزير مالية لكسمبورغ ورئيس مجموعة اليورو. وتفاوض في هذا الصدد على 548 ترتيب ضريبي سري يسمى “الأحكام الضريبية”   «tax rulings»، مع العديد من الشركات المصرفية والتجارية والصناعية والخدمية متعددة الجنسيات. وتهدف هذه الأحكام الضريبية«tax rulings»، كما يقال، إلى تشجيع التهرب الضريبي.

أكتب هذه الأسطر  في وقت يفر مئات الآلاف من اللاجئين  من سفك الدماء في الحروب في سوريا والعراق وأفغانستان. في 28 يوليوز 1951، صادقت دول العالم على الاتفاقية المتعلقة بوضع  اللاجئين، والمعروفة باسم “اتفاقية جنيف”. وقد أوجدت هذه الاتفاقية حقا إنسانيا عالميا جديدا، وهو الحق في اللجوء. كل من يضطهد في بلده الأصلي لأسباب سياسية أو دينية أو عنصرية له الحق غير القابل للتصرف في عبور الحدود وتقديم طلب للحصول على الحماية واللجوء في دولة أجنبية. لكن الاتحاد الأوروبي اليوم بصدد تصفية هذا الحق بحيث يقيم الجدران والحواجز والأسوار الشائكة لحماية حدوده بمنع الرجال والنساء والأطفال الذين يفرون من التعذيب والتشويه والموت من طلب اللجوء.

هابرماس أخطأ، إذ بوصفه الاتحاد الأوروبي بحارس عابر  للدولة  في ما يخص الصالح العام،  فهو لا يتصرف على هذا الأساس بوضوح.

ولكن ماذا عن الأمم المتحدة؟ هل تتصرف بشكل أفضل؟

للجواب على هذه الأسئلة، أريد أن أضع نفسي تحت سلطة أنطونيو غرامشي و”تفاؤل الإرادة”optimisme de la volonté. أكيد أن منظمة الأمم المتحدة في وضعية سيئة. وأكيد أيضا أننا نلتقي في الأمم المتحدة بشخصيات جهنمية،  ممقوتة أو شريرة. وهناك هذه الجحافل الكئيبة من البيروقراطيين، والطفيليات ذات الأجر السمين، كل هؤلاء الناس عديمو الشخصية، الخجولون، مترددون دوما. ولكن في داخل الأمم المتحدة ينشط أيضا عدد كبير من النساء والرجال المحترمين والشجاعين والعنيدين.

وتبقى الأمم المتحدة هي المصدر الوحيد الحي للمعايير الدولية.

في خطبته، أحبَّ لاكوردير أن  يذكر هذه البديهية، المنصوص عليها في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو:”بين الضعيف والقوي، الحرية هي التي تقمع، والقانون هو الذي يحرر”. نعم، المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي دائما أفق تاريخنا، واليوتوبيا التي توجه خطواتنا.

كلمة أخيرة حول  صناديق النسور. خوسيه مارتي José Martí دوَّن هذه الملاحظة: “الحقيقة، إذا استفاقت لا تنام أبدا  مرة أخرى”.

وبول سينغرPaul Singer، على رأس العديد من الصناديق النسور، فاز بالتأكيد ضد الشعب الأرجنتيني والعديد من الشعوب الأخرى في إفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي. ولكن، هو وأمثاله تم  تسليط الضوء عليهم. هناك وعي يتبلور وتحت الرماد هناك نار. وسيأتي يوما أُناس يدفعون بالمعركة  بعيدا.

إحالات:

(1) وارن بوفيت Warren Buffett، حوار 25 مايو 2005 مع CNN، أعيد نشره في نيويورك تايمز 26 نونبر 2006.

(2) مكون من 47 دولة منتخبة من طرف الجمعية العامة، أخذا بعين الاعتبار عدد الدول بالنسبة لكل قارة من القارات الخمس، مجلس حقوق الإنسان يشكل بعد الجمعية العامة (برلمان منظمة الأمم المتحدة) ومجلس الأمن (حكومته) الهيئة الثالثة من حيث الأهمية في منظمة الأمم المتحدة. مهامها مزدوجة: متابعة سياسات حقوق الإنسان للدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة بصورة دورية، ووضع قواعد قانونية دولية جديدة عندما تفرضها المستجدات.

ولدى مجلس حقوق الإنسان هيئة فرعية هي اللجنة الاستشارية. ويتألف من 18 خبيرا (بينهم 3 من مجموعة الدول الغربية)، ويقوم بالتحقيق في القضايا ويقدم مقترحات إلى المجلس. ليس لديه سلطة القرار. ويعين المجلس أعضاء اللجنة الاستشارية بناء على اقتراح من دولهم الأصلية، غير أن ولايتهم ليست حتمية impératif.

(3)  Jürgen Habermas، Après l’Eta

t-nation. Une nouvelle constellation politique,  Fayard, 2000, p. 74 et 75

3 Jürgen Habermas, Source : Les autres voix de la planète, AVP n° 73 / 4ème trimestre 2017

 

 

التعليقات على المعتصم يترجم مقالا لـ”JEAN ZIEGLER” عن أغنياء ضد الشعوب مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…