أسامة الزكاري

CA6CAA43-0F32-404D-8E11-60A5507D6CC9

​اتحاد كتاب المغرب.. أعرق مؤسسة ثقافية وطنية على صفيح ساخن هذه الأيام، بسبب تداعيات إقدام إحدى عضوات المكتب التنفيذي على نشر مقال/إدانة في حق زملائها، أو غالبيتهم على الأقل، من أعضاء المكتب المسؤول عن التسيير الإداري لهذا الإطار الذي من المفروض أنه يضم نخب الفكر والثقافة والإبداع والفن ببلادنا. وإذا كنا في هذا المقام لا ننوي الرجوع للوقوف عند مضامين المقال/الإدانة ولا عن جوانب الإثارة المرتبطة بعوالم الفساد والمال والجنس والريع والامتيازات والسفريات والليالي الخمرية التي صارت بذكرها الركبان في إطار النقاش السائد حاليا، فإن الحدث، وبالنظر للتداعيات الخطيرة والواسعة التي فجرها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وبدروب العوالم الافتراضية في العديد من المواقع الإعلامية الإلكترونية، أضحى يستفز ضميرنا الجماعي، من أجل إعادة طرح الأسئلة المغيبة حول هوية هذا الاتحاد، وحول أهدافه، وحول حصيلة عطائه، وقبل كل ذلك، حول مبررات وجوده وحول حقيقة تمثيله لكتاب المغرب الثقافي ولمبدعيه ولفنانيه ولمنتجي معالم بهائه الرمزي الراهن.
​تتوزع ملاحظاتنا بهذا الخصوص، على الشكل التالي:
​أولا- لا شك أن ميلاد الاتحاد ارتبط بسياقات تاريخية هيمنت عليها تقليعة الروابط والاتحادات، كأشكال تأطيرية لنخب المجتمع في إطار ارتدادات أجواء التعبئة والتوجيه والتأطير، بل والتحكم، التي فرضها منطق التدافع المترتب عن الحرب الباردة. وكان غريبا أن ينخرط المثقفون المغاربة في هذه التقليعة، مفضلين التنازل عن مساحات واسعة من عناصر فردانياتهم التي ظلت تضفي على صنعة الإبداع ميسمها الخاص وتفردها الاستثنائي داخل محيطها وتفاعلا مع وسطها المباشر. بمعنى، أن المثقف وجد نفسه مجبرا على ترك حميمياته المخصوصة التي تشكل عصب كل فعل إبداعي أو فكري ناضج، في مقابل القبول بالانخراط داخل جوقة “القبيلة”، بل وفي الكثير من الأحيان تحول هذا المثقف إلى ناطق باسم هذه “القبيلة” وإلى معبر عن انتظاراتها وإلى منظر لتحولاتها، فضاعت ذاته وسط صخب التدافع المواقفي والمصلحي وتوارت القيم الإنسانية لفعل الإبداع والكتابة والتفكير، مقابل طغيان نزوعات تسويق “المنتوج” المستجيب ليقينيات الجماعة والمطمئن لقناعاتها التقليدانية. لذلك، كان مثيرا للانتباه أن يعبر مفكر فرنسي لامع أثناء إحدى زياراته للمغرب بدعوة من اتحاد كتاب المغرب، خلال مرحلة رئاسة الناقد والروائي محمد برادة، عن استغرابه لمنحى تأطير المبدعين والكتاب والمفكرين في إطار رابطة “نقابية” يظل وجودها –أصلا- مناقضا لمنطق الفردانيات المؤطرة لعناصر الخصب والعطاء بالنسبة للكتاب وللمبدعين.
​ثانيا- لذلك، أمكن القول إن اتحاد الكتاب، وعلى امتداد تاريخه الطويل، لم يراكم قيما ثقافية رمزية يمكن أن نعتبرها قطائع مركزية في جسم الثقافة المغربية الراهنة، بقدر ما أنه تحول إلى مجرد بقرة حلوب لإشفاء غليل قطاعات واسعة من مهووسي الأضواء والريع والصالونات. وعلى هذا الأساس، أصبح الاتحاد إدارة متخصصة في تسجيل طقوس التعازي كلما تعلق الأمر بأحد أعضائه أو بأقرباء هؤلاء الأعضاء، إلى جانب التهافت على الحضور الصوري على المستوى الإعلامي أو في المناسبات الثقافية الوطنية الكبرى، مثلما هو الحال مع تظاهرة المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي تحتضنه مدينة الدار البيضاء بشكل سنوي. فلا يمكن لزائر جناح الاتحاد إلا أن يخرج بانطباع سلبي للغاية عن آليات اشتغال هذه المؤسسة التي لا تساهم في إضافة قيم ثقافية رمزية لرصيدنا الحضاري ولا في التأصيل النظري والإبداعي لهذه القيم. كما أنها أخطأت موعدها مع التاريخ بغيابها الواضح عن مواكبة الكثير من التحولات المفصلية في تاريخ المغرب الراهن.
​ثالثا- ظل الاتحاد حبيس عقمه المعرفي المرتبط بنزواته المصلحية الضيقة، دليل ذلك أن المشاريع الثقافية الكبرى التي عرفها المغرب الثقافي المعاصر برزت من خارج دوائر فعل هذا الاتحاد وتأثيراته المباشرة، مثلما هو الحال مع المشروع الفكري للأستاذ محمد عابد الجابري، أو مع مشروع المفكر عبد الله العروي، أو مع عبد الكبير الخطيبي،… بل إن الكثير من الأسماء التي صنعت التجربة في السابق، اختارت الابتعاد عنه ووضعت مسافات فاصلة تجاهه، بعد أن انتبهت إلى أنها ساهمت في هدر الكثير من الجهد ومن الوقت داخل دهاليز الاتحاد، وهو الوقت والجهد الذي كان بإمكانه أن يوجه نحو تطوير المشاريع الثقافية والفكرية الكبرى.
​رابعا- يبدو أن عناصر البهاء الثقافي قد ابتعدت عن أروقة الاتحاد، بعد أن بدأت هذه العناصر ترتبط بتجارب الأقاصي والفردانيات. هي أصوات ظلت تعمل في صمت وفي أناة، لكن في ثبات وفي وضوح وفي صدق. فبعيدا عن المركز وعن سلطه المخادعة، ظلت أصوات الهامش تنتج تجارب على تجارب، ومسارات على مسارات، شكلت عنوانا للبهاء الثقافي لزماننا المغربي الراهن.
​خامسا- تأسيسا على الملاحظة السابقة، بدا واضحا أن الانخراط في عضوية الاتحاد لم يعد يغري أصوات المغرب الصاعد. فباستثناء مرامي تعميم العضوية لتوظيفها عند الحاجة أثناء المؤتمر من خلال تحويل حامليها إلى آلة للتصويت ولكسب الأنصار والأشياع والأتباع، وباستثناء أصحاب النيات الحسنة من طالبي العضوية، ازدادت القناعة ترسخا بخطورة فقر التجربة وبعدم قدرتها على الإسهام في صنع هوية الثقافة المغربية المركبة، ولا في ترشيد معالم تميزها، الواحدة/المتعددة، الفريدة/المنفتحة، الجزئية/المركبة.
​سادسا- لقد ازدادت القناعة ترسخا بتواري القيمة الاعتبارية للفاعل داخل هذا الاتحاد المأزوم، بدليل أنه لم يعد ينتج أي بصمات إضافية يمكن أن تكسب الثقافة المغربية المعاصرة طابعها الإنساني، وكذلك الأمر بالنسبة للذوات الفاعلة. فشكسبير لم يكن في حاجة لاتحاد للكتاب لكي يصبح أبا للمسرح العالمي، والمتنبي لم يكن في حاجة لأي اتحاد لكي يصبح شاعرا عظيما، وهوميروس لم يكن يعرف أي شيء عن روابط الكتاب عند كتابته لروائعه الخالدة وعلى رأسها “الإلياذة” و”الأوديسا”، وميخائيل سيربانطيس لم يسبق له أن انخرط في أي اتحاد أو رابطة للكتاب قبل إبداع نصه الرائع “دون كيشوت”، وفولتير، مونتيسكسو، والجاحظ، وبلزاك، وإميل زولا، وتشارل ديكنز… واللائحة طويلة. لو انتظر مثل هؤلاء الكتاب والمفكرين إنشاء اتحادات أو روابط للكتاب قصد إخراج أعمالهم إلى النور، لحلت الكارثة بالفكر الإنساني وبالإبداع الحضاري المميز للهوية الحضارية لأي شعب من الشعوب ولمعالم سموه ورقيه.
​سابعا وأخيرا- ربما أضحى من اللازم إعادة طرح الأسئلة المدخلية لفهم الأزمة الحالية التي يمر منها الاتحاد، من قبيل: ما المقصود باتحاد الكتاب اليوم؟ وما هي انتظارات النخب وعموم المغاربة من دوام وجوده؟ وهل يفيد المغرب الثقافي في شيء أم أنه أصبح مرتعا للاسترزاق البئيس ولإعادة إنتاج معالم “الحداثة المعطوبة” حسب التعبير الأثير للشاعر محمد بنيس؟ فبعيدا عن ضجيج الفضائح الأخلاقية، وعن الأحقاد الصغيرة الطافحة والهادفة إلى تصفية الحسابات الضيقة واستغلال فرص الزمن الضائع، يبدو أن الظرف أصبح ملائما لإيقاف هذا العبث المسمى اتحادا للكتاب، عبر اكتساب الجرأة لمقاربة أسباب الفشل ودخول مرحلة الردة والموت السريري. إنه موت للفكرة وللمنطلق وللمآل. ربما سيكون من المفيد تحويل هذا الهيكل إلى مركز للدراسات أو إلى منبر للتأطير أو إلى مؤسسة للتكوين وللتفكير، أما أن يستمر في إعادة إنتاج أعطابه المزمنة، فذاك عين العبث ومنبع الزوال ومآل الاندثار.
1

التعليقات على هل نمتلك جرأة الإعلان عن موت اتحاد الكتاب؟ مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…