تستمد الصهيونية  مسوغ وجودها من عداء السامية الذي كان مستشريا  بأوربا حتى  القرن التاسع عشر، رغم  فلسفة الأنوار أو الفكر الاشتراكي، وهو الأمر الذي دفع أقطاب الصهيونية، كما هو معرف، وعلى رأسهم هرتزل إلى التفكير والعمل من أجل وطن لليهود. وقامت الصهيونية منذ الأول على فكرتين منافيتين للواقع تشكلان خطيئتها الأصلية.

أولا: المقولة الشهيرة لإسرائيل زنغويل Israel Zangwill من “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”،

والثانية:  قيام قومية علمانية من  لدن أشخاص غنوصيين، على اعتبارات دينية.

ظلت هذان الفكرتان المتناقضتان مُحركتين للحركة للصهيونية، وتُحددان سياسية إسرائيل، وتَحولان إلى الآن دون حل عادل .

بالنسبة للطرح الأول، كان أقطاب الصهيونية ومنهم إسرائيل زنغويل  يعون عدم صواب الزعم بخلاء   فلسطين، وهو ما وقف عليه إسرائيل زنغويل نفسه حين زيارته  لفلسطين سنة 1905 ووقوفه على وجود شعب بها. أما هرتزل فقد كان يتبني فكرة هلامية من أن الساكنة الفلسطينية ستقطع الحدود، حسب تعبيره، بعصا سحرية. وكانت رؤية زنغويل لا تختلف عنها من حيث الطرح الرومانسي من أن الفلسطينيين سيجمعون خيامهم وينصرفون في أدب (كذا).

لكن الواقع كان شيئا آخر، ولم يكن من وسيلة لتطويع الواقع، سوى ترحيل الفلسطينيين قسرا من أراضيهم.

أما الفكرة الثانية فكانت ولا تزال تطرح إشكالات عميقة. تسوغ ما يسمى بـ”حق العودة” لكل  يهودي، مما يطرح السؤال عن من هو اليهودي. إذا كان عقيدة، فما الحال لمن تخلى عن عقيدته اليهودية، وما هي محددات “الهوية” اليهودية، وهل الغنوصية تنطبق مع هذا التوصيف، علما أن أغلب الإسرائيليين غنوصيين؟

ليس بالأمر اليسير تحديد من اليهودي، الذي يتمتع ب”حق العودة”، وهو ما أوحى إلى مؤرخ إسرائيلي بكتاب أثار لغطا كبيرا في إسرائيل “شلمو  ساند” بعنوان : “كيف تم استحداث الشعب اليهودي”..   Shlomo Sand « comment le peuple juif fut inventé، يعصف فيها بكثير من المسلمات التي هي بالأساس اعتبارات إيديولوجية أكثر منها حقائق موضوعية.

ومن البديهي أن هذا “الحق” حتى إذا تجاوزنا كل المشاكل المرتبطة بتحديده، مناف للتوجه العالمي أو الحداثي، الذي يربط العقيدة بحميمية الشخص، ولا يعتبرها محددا للعمل ضمن الشأن العام، ويعتبر الزج بالعقيدة في الشأن العام واحدا من أسباب التوتر والعداء والكراهية. هذا فضلا عن اصطدام هذا الطرح مع أبجديات المنطق العام common sense. كيف يُحرم مثلا من ولد بحيفا من زيارتها، لا لشيء إلا لأنه مسلم أو مسيحي، أو ولد من أبوين مسلمين أو مسيحيين، ويتمتع أي شخص بالجنسية الإسرائيلية، له حق الزيارة والتملك وتقرير المصير، ممن يولد من أم يهودية، ولو لم يطأ أجداده أرض فلسطين ؟

 1ـ العلاقة المحتدمة بين الفلسطينيين وبين المهاجرين اليهود

من الضروري أن نذكر بأشياء طالها النسيان، منها أن الهجرات الأولى لليهود إلى فلسطين، أو ما يسمى بالعالية، لوقيت بالترحاب من لدن عرب فلسطين وغيرهم، بل من أقطاب فكرية ومنهم رشيد رضا وعناصر من المؤتمر القومي العربي الذي انعقد بباريس سنة 1913 كما أن بعض  الاتجاهات الصهيونية مثل أحاذ شام، كانت ذات توجهات إنسانية. بيد أن التوجهات الاستيطانية، وتدفق أعداد المهاجرين اليهود، والاستحواذ على الأرض، وتشكيل تعاونيات ونقابات مكونة من عناصر يهودية، والنظرة الاستعلائية للساكنة الأصلية، أسهم ذلك كله في توتر العلاقات بين الطائفتين العربية واليهودية، وفي تنامي خطاب عدائي منذ الإعلان عن وعد بلفور إلى قيام دولة إسرائيل.

المواجهات العنيفة التي حدثت في الحرم الشريف سنة 1929، وضعت حدا للغموض. وإذا كان أقطاب الصهيونية لا يتكلمون علانية آنذاك عن ترحيل الفلسطينيين، على خلاف الاتجاهات اليمينية المتطرفة التي كان يتزعمها فلاديمير جابونتسكي الداعية علانية إلى تطهير “أرض إسرائيل”، فإن الوثائق التي تم الكشف عنها تُبين عن أن زعماء الصهيونية كانوا يعملون منذ الثلاثينات على ترحيل الفلسطينيين.

ويمكن أن نقدم ثلاث شهادات لمسؤولين صهاينة من عرّابي الترحيل transfert :

– من حيث الخطاب أو التنظير :  منها ما خطّه يوسف ويتز Yosef Weitz  الذي كان يشغل منصب مدير مصلحة الاستيطان التابع للصندوق الوطني اليهودي، والذي سيرأس منذ 1948، لجنة الترحيل، المقررة من لدن الحكومة الإسرائيلية. ومما ورد في مذكراته  بتاريخ 20 ديسمبر 1940:

“ليكن واضحا بالنسبة إلينا أن لا مكان لشعبين في هذا البلد. لن تستطيع أي “تنمية” من أن تقربنا من أمل في أن نكون شعبا مستقلا في هذا البد الصغير. حينما سيُرحَّل العرب، سيتسع البلد، وإذا بقوا فسيضيق ويصغر. لا مجال للمساومة في هذه المسألة. امتلاك الأرض لن يؤدي إلى الدولة. (…) الوسيلة الوحيدة هي ترحيل العرب الموجودين هنا إلى البلدان المجاورة، كل العرب باستثناء ربما من هم من بيت لحم والناصرة والمدينة القديمة للقدس. لا ينبغي أن تبقى هناك قرية واحدة، أو قبيلة واحدة. سيتم الترحيل نحو العراق وسوريا، بل وشرق الأردن، ولهذا الغرض سنوظف المال، المال الكثير، وإذاك يمكن للبلد أن يستوعب ملايين اليهود. ليس هناك من حل آخر”.

– من حيث العمل الدبلوماسي : وتمثّلَ ذلك من خلال الإجراءات الأولية التي باشرها حاييم ويزمان، وهو آنذاك رئيس المنظمة الصهيونية والمكتب التنفيذي للوكالة اليهودية، منذ 1930، دفاعا عن فكرة الترحيل، وتقديمه مذكرة سرية لكاتب الدولة البريطاني في المستعمرات الورد باسفيليد Lord Passfield من أجل ترحيل الفلاحين الفلسطينيين نحو شرق الأردن، وقد دافع ويزمان عن فكرة الترحيل على اعتبار أنها لا تمس الأخلاق، وأن هناك سابقة ترحيل اليونانيين والأتراك، وأن المسألة هي بالأساس تقنية تستوجب المال والتنظيم فقط، وليس في الأمر ما قد يخدش الأخلاق أو يسيء إليها. وقد اعترض كاتب الدولة البريطاني آنذاك على  فكرة الترحيل.

– من حيث الأجرأة العملية : وذلك من خلال عمل بن كوريون، الذي ربط منذ الثلاثينات المشروع الصهيوني وقيام دولة إسرائيلية بالترحيل، بل الترحيل القسري، لأن العرب لن يرحلوا من تلقاء أنفسهم، ومما أورده  في يومياته بتاريخ 12 يوليوز 1937 ما يفيد أن الترحيل لن يتم من دون قوة ضاغطة أو بطريقة قسرية. يقول بن غوريون:

“علينا أن ندْعَم مشروع الترحيل الضروري، بكل حزم وعزم والقوة التي يمكن أن نتحلى بها. علينا أن نزيح من أذهاننا أن ذلك شيئا مستحيلا. يمك إنجازه.(…) علينا أن نهيء أنفسنا لإنجاز الترحيل بأنفسنا. (والجملة الأخيرة مسطرة في النص الأصلي.)

والشيء الواضح والجديد في أدبيات بن كوريون هو عدم الاستنكاف عن استعمال القوة، وهو ما يؤكده في رسالة لابنه عاموس بتاريخ 5 أكتوبر 1937:

“علينا أن نطرد العرب وأن نحل محلهم (..) وإذا اضطُررنا أن نستعمل القوة، فإننا سنفعل ليس لكي ننزعهم من أراضيهم في النقب وشرق الأردن، ولكي لنضمن حقنا لكي نستقر في تلك الأراضي، وعلينا إذاك أن نستعمل كل قوة متاحة لنا”.

وفي تقرير قدمه بن غوريون بتاريخ 15 أكتوبر 1941 يقول فيه:

“من المستحيل تصور أن إخلاءً عاما يمكن إنجازه من دون إكراه، بل من دون إكراه عنيف (…) إن فكرة ترحيل الساكنة أضحى مقبولا، والوسيلة المضمونة لحل المشكل الخطِر والمؤلم للأقليات الوطنية”

2ـ بعد إعلان التقسيم

غيرت تداعيات الحرب العالمية الثانية موازين القوى على الأرض في فلسطين لصالح العناصر الصهيونية، أولا من حيث التنظيم المحكم للتنظيمات الصهيونية، سواء منها المدنية، أو الميلشيات العسكرية التي اكتسبت دُربة بانخراطها إلى جانب بريطانيا في الحرب، ثم التعاطف الدولي الناجم عن المحرقة، والتوظيف الإعلامي ضد عناصر فلسطينية مالأت ألمانيا النازية.

وقد قررت الأمم المتحدة بناء على تقرير لجنة موفدة لفلسطين تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية وأخرى يهودية، وبمقتضى هذا التقسيم منحت 55 في المائة من الأرض، لأقل من ثلث الساكنة اليهودية، مع واجهة بحرية كبيرة، والأراضي الخصبة. وقد رفض الفلسطينيون قرار التقسيم ليس لأنه مجحف، بل لأنه جائر، إذ كيف يسوغ لصاحب أرض أن يساوم بشأنها.

إن المواجهات العسكرية أو الحرب لم تبدأ كما يُقدم غالبا مع قيام دولة إسرائيل بتاريخ 15ماي 1948، بل منذ قرار التقسيم. وقد كانت الميلشيات العسكرية الصهيونية أكثر عُدّة، ودُربة وتسليحا، مما مكنها من حسم الأمر على الأرض لصالحها.

لقد كانت التنظيمات الصهيونية حتى 1946، تتوسل بالدولة المنتدبة ـ بريطانيا العظمى ـ من أجل كسبها لفكرة الترحيل ولإنجازها، لكن منذ 1946، غيرت من خطابها، متوجهة بالأساس للجنة التقصي البريطانية الأمريكية ، بالقول إن كنت لا  تستطيع أن تساعدها فليس عليها أن تقف في وجهها.

لقد سعت القوات اليهودية منذ قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين مدعومة بمليشياتها العسكرية تغيير البنية السكانية على الأرض بالاستيلاء على المدن، والقرى والمحاور الطرقية، قبل انتهاء المدة التي حددتها الأمم المتحدة لانتهاء الانتداب بتاريخ 14 ماي 1948.

ويشي تقرير بن كوريون بتاريخ 19 دسيمبر1947 بهذا التوجه:

“لقد تبنينا نحن الهاكانا تقنية الدفاع الهجومي. خلال الهجوم علينا أن نصوب ضربة حاسمة: هدم المواقع العربية وطرد ساكنيها واحتلال مواقعها”.

إن المُعوَّل هو القوة العسكرية، أو مثلما قال بن كوريون ليوسف فيتز “الحرب ستمنحنا الأرض. ما لنا وما ليس لنا، مفاهيم تصلح أثناء السلم، أمّا أثناء الحرب، فهي غير ذات معنى”.

أدركت التنظيمات الصهيونية أن الظرف سانح  لإجراء ترحيل قسري، دون الوقوع تحت استنكار دولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

لقد أسفرت الأبحاث التي قام بها من يُسمون بالمؤرخين الجدد الإسرائيليين أمثال Teveth, Segev, Flapan, Shlaïm, Morris، أو من الفلسطينيين أمثال وليد خالدي، وإلياس صنبر وشريف كنعانة، و نور مصالحة، أو الكاتب الإنجليزي الإيرلندي  Erskine Childers أو الصحافي الفرنسي إيريك رولو من دحض كثير من الأراجيف، ومنها أن الترحيل أو الهجرة في الأدبيات الإسرائيلية تمت بمحض قرار الفلسطينيين بدعوة من قياداتهم على أمواج الأثير (الراديو).

إن الدراسات التي قام بها مثلا وليد خالدي حول ما أسماه بـ”حرب الطرد”، في بحثه المعنون بـ”مخطط دال” أو “داليت” بالعبرية، يًبين من خلال وثائق إسرائيلية على استعمال القوة والتقتيل والهدم والترويع والتخويف والدعاية لدفع الفلسطينيين للرحيل، ويعتبر بحثه من الدراسات الضافية والرصينة في الموضوع.

لقد دعت أدبيات الأمم المتحدة في قرارها 194، بناء على المعطيات الموضوعية المتوفرة من ذلك التاريخ، على حق عودة المُرحّلين من فلسطيني 1948.

إن الحلول الممكنة لقضايا عالقة هي من دون شك تلك التي تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الموضوعية القائمة في زمن معين، ولكن الحلول الدائمة هي تلك التي لا تُجافي الحقيقة، وتجري قراءة على كل فصول نزاع ما، بما فيها المؤلمة.

 

 

 

 

 

التعليقات على   جذور مشكلة مُرحّلي 1948 من فلسطين مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…