مصطفى الفن

سبق لكاتب هذه السطور أن قال في مقال رأي سابق إن هناك مسؤولين في الدولة، وعوض أن يسهلوا مأمورية ملك البلاد، فإنهم يفعلون عكس ذلك بهدف تعسير مهمته وعرقلة مسلسل الإصلاح الذي ابتدأ قبل قرابة عقدين من الزمن.

وليت الأمر توقف عند حدود بضعة مسؤولين من داخل الدولة يعسرون مهمة الملك ويرفضون مسلسل الإصلاح الذي يقوده.

لا.

الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود.

اليوم، نحن أمام وضع استثنائي غير مسبوق ومفتوح على مخاطر كبرى قد لا تبقي ولا تذر.

والسبب هو أن عدوى “الحراك” انتقلت من مدن الريف إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها الحساسة في معركة شرسة تمايز فيها الصفان وجثا فيها البعض على الركب لتكسير عظام البعض الآخر.

بمعنى أننا أمام “حراك مؤسساتي” بطابع رسمي وأمني يشتغل أصحابه بمنطق تقليدي ينتصر لدستور ما قبل 2011 ولا يهمهم أن ينسفوا كل شيء جميل بناه المغرب طيلة هذين العقدين من الزمن.

وهذه “التسريبات” التي يهدم بعضها بعضا من داخل مؤسسات وأجهزة أمنية حساسة لم تبدأ، في حقيقة الأمر، مع واقعة تسريب التقرير الطبي حول التعذيب أو مع واقعة تسريب فيديو يظهر فيه زعيم حراك الريف ناصر الزفزافي عاريا.

أبدا.

هذه التسريبات ذات الطابع الأمني الخاص لها تاريخ لم يبدأ حتى مع واقعة تسريب معلومات دقيقة عن الحياة الخاصة لمسؤول سام في جهاز حساس لم يخرج أبدا عن واجب التحفظ حتى في اللحظات العصيبة.

وهذا هو ما يمكن أن نسميه “اللعب بالنار” خاصة عندما تمكن “الجهاز المتضرر” من رسم ملامح هوية الجهة التي تقف وراء هذه التسريباب الخاصة بما تحت الحزام والمدمرة للجمل بما حمل.

وأتوقع أن يكون عاهل البلاد جد غاضب وهو يرى كيف أن مؤسسات وأجهزة مسؤولة أمامه دخلت في “حرب مواقع صغيرة” وهو على بعد بضعة أيام من الاحتفال بعيد العرش.

وعيد العرش ليس محطة عادية في حياة ملك مغربي ولا في حياة المغاربة منذ استقلال البلد.

هذا العيد، المرتقب في نهاية هذا الشهر؛ له دلالة رمزية وله ثقل خاص في وجدان الجالس على العرش.

والمفروض أن تنخرط جميع مؤسسات الدولة في توفير الأجواء الاحتفالية بهذا الحدث الهام خاصة أن الملك شخصيا فتح تحقيقا في تعثر مشاريع الريف.

نعم هذا هو المفروض في أجهزة ومؤسسات رسمية اللهم إلا إذا كان بعض “الجمهوريين” داخل المملكة يريدون أن ألا يحتفل أهل الريف ومنطقة الريف، لأول مرة في تاريخ المغرب المستقل، بهذا العيد الذي يعرض فيه الملك حصيلته لسنة كاملة من العمل المتواصل.

دعونا نفترض لو أن الزفزافي، بعد كل هذا الذى عاناه من “تعذيب” موثق في تقرير طبي رسمي، رفع سقف مطالبه عاليا ودعم أطروحة الانفصال بالريف ودافع عنها سلميا بالقوة اللازمة في هذه الجلسات المرتقبة في محاكمته؟

أكيد سيكون ذلك محرجا وللغاية، وسيصبح المغرب، والحالة هذه، قبلة مركزية عالمية لكل المنظمات والهيئات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان وبهذه القضايا والملفات المفتوحة على المجهول.

وغير خاف على أحد أن الكثير من الأطراف سواء في الداخل أو الخارج كانت تتمنى أن يسير الزفزافي في هذا المنحى، غير أنه لم يفعل.

وهذا ينبغي أن يحسب له ليسجل لفائدته كظرف من ظروف التخفيف.

فماذا يريد أولئك الذين اشتغلوا مع الجنيرال أوفقير أكثر من هذا؟

ألم يكفهم أن الزفزافي نفسه أصبح يتحدث بأدب عال عن الملك ويصفه بملك الفقراء وملك منطقة الريف الفقيرة، بل أصبح يستغيث به ويشتكي إليه في “رسائل خاصة” “ظلم الأجهزة” من داخل سجنه؟

ولم يقف الزفزافي عند هذا الحد، بل إنه لم يعد يتحدث حتى عن مسيرة 20 يوليوز لئلا يشوش على العاهل المغربي احتفالاته بالجلوس على عرش أجداده.

أكثر من هذا، فحتى رسالته التي كشفها محاميه محمد زيان تحدث فيها عن السلمية و”الحكرة” ولم يتحدث عن انفصال ولا عن مطالب سياسية مغذيه لهذه النزعة الانفصالية.

وليس هذا فحسب، الزفزافي أبان عن حسن نية عال عندما لم يوكل محاميا “ثوريا” من النهج الديمقراطي أو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان للدفاع عنه.

السيد اختار النقيب زيان المعروف بولائه المطلق للملك والملكية ولا يتحرك إلا إذا التقط “الإشارات العليا” التي تنتصر ل”منطق الدولة والوطن”.

ولا أبالغ إذا قلت إن زيان هو الذي يستحق لقب “خادم الدولة” وليس عبد الوافي لفتيت ومن معه.

لماذا؟

لأن زيان هو الذي كان له دور محوري في إقناع الزفزافي بهذه “الرسائل الودية” من داخل السجن تجاه الملك والملكية والدفع نحو الانفراج وتهدئة الأجواء.

ولا سامح الله التامك المندوب العام لإدارة السجون لأن سعادته شوش على هذه “الرسائل الودية” ببلاغاته “البليدة” فقط ليبعد النار عن نفسه عوض أن يبعدها عن الوطن وعن رمز الوطن أولا.

ولست في حاجة إلى التذكير بأن بعض المؤسسات والأجهزة ذات الحساسية هي غير مطوقة بواجب التحفظ فقط، بل إنها ملزما دستوريا بأن تشتغل وفق “نظام رئاسي” صارم لأن مسؤولي هذه المؤسسات معينون بظهائر ملكية ومسؤولون مسؤولية مباشرة أمام الملك شخصيا.

ووحده الجينرال حسني بنسليمان الذي احتكم إلى مقتضيات هذا “النظام الرئاسي” ولم يعقب بكلمة واحدة رغم أن التقرير الطبي الذي أصدره المجلس الوطني لحقوق تحدث عن مزاعم ب”تورط رجال درك” في تعذيب معتقلين من الريف.

وهذا لا يعني بالطبع أن جهاز الدرك وقف مكتوفي الأيدي تجاه ما حدث، ولم يفتح تحقيقا داخليا في ما نسب إلى عناصره من “اتهامات” خطيرة مسيئة لسمعة البلاد الحقوقية في الداخل والخارج.

والاشتغال في صمت هو “عقيدة” لدى الجنيرال بنسليمان وأمثاله من عقلاء هذا الوطن الذين كانوا وراء توقيف مشروع تقنين عشبة الكيف خوفا على الأمن القومي للبلد وخوفا على شبابه.

وأمثال هؤلاء العقلاء، وهم كثيرون في الدولة، هم الذين اقترحوا أيضا على “الجهات العليا” حل المجالس المحلية والجهوية المنتخبة بالريف من أجل حل جذري لهذا الاحتقان بهذه المنطقة المشتعلة.

وربما لهذا السبب يهاجم بعض قادة البام اليوم الجنيرال بنسليمان من تحت الجلباب في بعض الجلسات الخاصة والعامة أيضا لأنه بالنسبة إليهم “هدم الحفلة” قبل أن تبدأ.
.
وعندما أتحدث هنا عن “عقيدة الصمت” فلا يبنبغي أن يفهم من هذا على أنه تجريم لأي كلام بناء ومسؤول ينفع الناس والوطن ويمكث في الأرض.

أنا أتحدث هنا عن “الكلام” الذي يتخذ شكل “تسريبات انتقامية” بهدف توتير الأجواء وخلط الأوراق داخل هذا الجهاز أو ذاك، وأحيانا بهدف إزاحة هذا المسؤول أو ذاك ليخلو الجو لمظاهر البؤس والقبح.

ولا بأس أن أشير هنا إلى أن بعض “الضربات”، التي تنزل اليوم على ظهر مسؤول أمني سام سرق الأضواء من الأضواء من الجميع بجديته وكفاءته العابرة للقارات، لم تعد تنطلق من أماكن غير معروفة.

لا.

هذه “الضربات” أو قل هذه “الطلقات النارية” أصبحت تنطلق من نفس قمرة القيادة الذي يوجد داخلها الربان المستهدف فقط لأن هذا الربان لم يلتحق بذلك الجهاز إلا حديثا مع التسعينيات ولا ينبغي أن تكون له هذه “الحظوة” وهذا “القرب” من مربع الحكم.

وأنا أنهي هذه المقالة المتواضعة، أستحضر هنا تصريحا دالا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد لأنه صدر عن رجل رزين واع بما يقول.

وأقصد هنا الاستقلالي نزار البركة الذي تحدث، أمس في نشاط حزبي، بلغة العارف بخبايا ما يجري ويدور داخل المطبخ ليقول “إن المغرب يعاني من أزمة الثقة ولهذا السبب تراجعت الاستثمارات الأجنبية مؤخرا في بلادنا”.

وبالطبع فاسترجاع الثقة يمر بالضرورة عبر قرارات قاسية شبيهة ب”طير أبابيل” للتخلص من هذا “العهن المنفوش” الذي يخترق مؤسسات الدولة ويعرقل جهودها في الإصلاح.

وهذا ما ينتظره المغاربة من الملك بعد أن يتوصل بالتقرير النهائي حول المشاريع التنموية بالريف الذي ستطير معه ربما الكثير من الرؤوس اليانعة أو الخامجة. ولا فرق.

التعليقات على مع قرب عيد العرش.. عندما ينتقل “الحراك” إلى داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…