فتيحة أعرور

حكايات باريسية (3)

جئت إلى هذا العالم لأكتب فقط… لم لا أريد استيعاب هذه الحقيقة!؟

دهاليز السياسة مؤلمة حد القرف…

مر شهر وتسعة عشرة يوما، بحثت عن الغربة ولم أجدها، لم أعد أعرف هذا الإحساس الذي لازمني لسنوات طويلة في وطني… الغربة هناك، بين أحضان من يفترض أنهم أهلك وأحبتك وظلمهم “أشد مضاضة من وقع الحسام”.

صرت لا أمل من الكتابة ولا أريد لهذا النزيف الجميل أن يتوقف. أكتب في القطارات وفي ميترو الأنفاق… بين حصص الدروس التطبيقية والمحاضرات. قلمي قلما كان يخط حرفا، ولما يفعل، ينزف ألما وحرقة على مآسي وطن تحول إلى رهينة بين أيدي اللصوص وقراصنة الأحلام. هذا القلم نفسه ينبعث اليوم من رماده مثل طائر خرافي، ليكتب ويكتب ويكتب… إنه يتنفس الكلمات المتزاحمة في جوفي.

محطة “سان دوني” صارت تلهمني في الكتابة.. كذلك ميترو الأنفاق حيث أتفرس أسماء الأماكن والوجوه الواجمة والهادئة على حد سواء. أسائل ما خلف الأقنعة وأتخيل قصص حياة هذه الكائنات التي تسارع الوقت… وقت كالسيف!

رائحة الشواء أمام الساحة الفسيحة المقابلة للمحطة كلما قذفني إليها خط “الترامواي” أصبحت طقسا يوميا. إنها تذكرني برائحة شواء اللحم المفروم المنبعثة من الخيام المنتصبة في السوق الأسبوعي بقريتي… الفرق أن رائحة الشواء بمحطة “سان دوني” تشعرني بالغثيان بينما أجد رائحة وطعم الكفتة المشوية بسوق قريتي لا يضاهيان من حيث اللذة والعبير.

مزيج بشري من الهنود، والآسيويين والأفارقة، الشماليين والجنوبيين، ولكنات مختلطة تخترق الأذان بصخب…

– “ليكا ليكا”… “مارلبورو مارلبورو”… “مايسو مايسو”.

تعرض العجوز الجنوب إفريقية أكواما من الذرة المسلوقة والمشوية فوق طاولة خشبية مهترئة وتصيح:

– “مايسو مايسو”…

هذه الملامح أعرفها، نعم أعرفها. ذات مرة طاردها البوليس من محطة ميترو الأنفاق “لي كورتي”. تركت العربة بما حملت وركضت مهرولة بعيدا.

دخلت المحطة واختفيت وسط الأمواج البشرية. وقفت على الخط المار عبر محطة “شاتلي لي هال” حيث علي أن أقل خط ميترو الأنفاق المتجه إلى محطة “لي بيراميد”.

في القطار، الوجوه صامتة مثل تماثيل من خزف، قلما تحدث بعضها البعض…

المحطة الأولى والثانية والثالثة… يتعين النزول هنا إذن.

سحبت هاتفي لأشغل صديقي “جي بي إس” الذي دلني إلى المعهد الوطني لتاريخ الفن.. المحاضرات تقام في أماكن مختلفة، وهذا وحده كفيل بألا يشعرك بالملل…

لأول مرة سأحضر مادة “رهانات الأنثروبولوجية التاريخية للمعارف والعلوم”… يا له من عنوان مثير.. عدد قليل من الطلبة وأستاذ يتحدث بهدوء وثقة خاليين من الاعتداد بالنفس. أنهى المحاضرة وفتح باب النقاش، ثم اقترح على الطلبة تحميل كتابه مجانا عبر الأنترنيت.

لم أصدق أن شخصا وعالما أنثروبولوجيا بهذه الكفاءة يعرض عمله بالمجان… أعدت السؤال لأتأكد أنني لست بحاجة فعلا للدفع من أجل الحصول على نسخة، مع أنني سأتمكن من مطالعة الكتاب، في كل الحالات، عبر المكتبة الرقمية التي تتيح المدرسة ولوج الطلبة إلى قاعدة بياناتها، حيث بوسعهم تفحص المئات من الكتب والمنشورات العلمية في مجالات معرفية مختلفة… تذكرت بعض أساتذة الحقوق بجامعة فاس، سامحهم الله، ممن كانوا يلزموننا باقتناء مطبوعاتهم الرديئة والمليئة بالأخطاء اللغوية وحتى المعرفية مقابل مبالغ كانت تبدو لنا مكلفة مقارنة مع مبلغ منحة الطلاب الهزيلة.

اعذروني، لا أتنكر للوطن في شيء، فقط أبصق الحقيقة في وجهه عارية كما ولدتها أمها… ثم إنه ليس سرا، فلا مكان الآن يشدني الحنين إليه هناك غير قريتي العزيزة… لا مكان!

التعليقات على أبصق الحقيقة عارية في وجهه الوطن مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…