عز الدين العلام

إذا كان الهدف الأسمى للدين عامة، مهما اختلفت شعائره، هو تهذيب السلوك الإنساني، ونقاء الطوية، وسلامة السريرة، وصفاء النفس… فالمفروض أن يقدّم لنا “رجل الدين” أو من يدّعي أنه كذالك، المثال والقدوة والنموذج، حتى نقتدي به ونسير على خطاه لنجعل من “مكارم الأخلاق” التي يتشدّق بها المسلمون واقعا معيشا، ومن خصلة الصدق سلوكا يوميا. غير أن الأمر لم يكن دائما كذلك، لا ماضيا ولا حاضرا.

فها هو تراثنا العربي الإسلامي لازال يحفظ لنا العديد من النصوص التي تعرّي هؤلاء المنافقين الذين يتخفون وراء حجاب الدين، فاضحة موبقاتهم ومفارقاتهم. ولنا في “رسائل” الجاحظ، وخاصة منها رسائل “المعلمين” و”الغلمان والجواري” عشرات الحكايات الساخرة من غباء “معلمي الصبيان” وشبَق أنصاف “الفقهاء”، والمعرّية للعديد من السلوكات المتخفية وراء قناع التقوى والتخشع والورع الزائف. ويكفي هنا أن أذكّر بالعنوان الكامل للكتاب الشيق والممتع الذي ألفه ابن الجوزي وهو: “أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والرواة والمحدثين والمتسببين، وطوائف تتصل بالغفلة بسبب متين”. ويكفي أيضا أن يعود القارئ إلى بعض نصوص أبي حيان التوحيدي الفاضحة، ونصوص الأبشيهي الساخرة المرحة، أو يعود إلى ما تزخر به “مقامات” بديع الزمان الهمداني من صور ناطقة، أو ما رواه شهاب الدين التيفاشي في “نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب” من حكايات عارية… وهي كلها نصوص تبرز في الكثير من مناحيها “ازدواجية” بعض رجال الدين من فقهاء وقضاة وأئمة ومؤذنين ووعاظ… ذاك واقع الحال فيما مضى. ولكن، ماذا لو استحضرنا ما يروج اليوم من طرائف ونكات مغربية كلّها سخرية من نفاق بعض “الوجوه الدينية”.

قد يعترض معترض ويقول: ما بالنا نجمع بين “النكتة” و”رجل الدين”، وما بالنا نخلط بين الجد والهزل؟ وجوابنا بسيط، يتمثل في كون “الهزل” من أرفع درجات “الجد”، كما قال “الجاحظ”، وفي كون “السخرية” أقصى درجات “النقد” وأقساها، ناهيك أن “النكتة” تستقي أهميتها وقيمتها من كونها صنع جماعي وتعبير عن شعور أو لاشعور ذات جماعية، وهي في حقيقتها مجموعة من الصور يختزنها مخيال الأمة ويغذيها باستمرار.

توضح لنا مجموع الطرائف والنكات المتعلقة بشخصيات مثل “الفقيه” (في الحقيقة هو معلم الصبيان بلغة الجاحظ)، و”الطلْبة” (جمع “طالب” وهي مجموعة تقرأ القرآن في المناسبات) و”الإمام” و”المؤذن” و”الإسلامي” (وهو شخصية أصبحت موضوع نكتة في السنوات الأخيرة) عددا من المفارقات التي تطبع سلوكهم، ويكون وجه الغرابة المثير للدهشة والضحك هو التناقض بين “صورة” الشخصية المفترضة و”الفعل” الذي تقوم به. و بعبارة أخرى بين”أفق انتظار” المتلقي وما يحدث فعلا. ف”الفقيه” مثلا الذي نفترض فيه الورع والتقوى يأتي بنقيض ما ننتظره منه، إذ يتوق لمتاع الدنيا الزائل، كالجنس بتحايله على نساء أميات، وحتّى متعلمات أو داعيات، أو ممارسته للشذوذ الجنسي من كثرة معاشرته للصبيان. كما أنه قد يتذوق الخمر التي “حرّمها” الله، كما يقولون، فتروقه، بل إنه قد يرفض أحيانا دخول الجنة لبرودتها وحياتها الروتينية (في النكتة طبعا) مقابل جهنم وما يعتمل داخلها من جلبة ونشاط. والواقع أن جل النكات المروية بشأن “الفقيه” هي تجسيد قوي للمثل المغربي الشهير والقائل: “الفقيه الذي ننتظر بركته، دخل الجامع ببلغته”. ويبدو أن هذه الصورة السلبية حول هذه الشخصية تكاد تكون شائعة بدليل حضورها في كثير من الأعمال السينمائية والمسرحية المغربية مثل “ولي الله” لأحمد الطيب العلج و”مقامات بديع الزمان الهمداني” للطيب الصديقي و”حلاق درب الفقراء” ليوسف فاضل”… وما قلناه عن “الفقيه” ينطبق أيضا على “الطالب” الأكول الشره، وهو الذي يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، كما ينطبق على “الإسلامي”، وإن كانت أغلب النكات حوله تدخل في إطار النقد الساخر أكثر من كونها إقرارا للمفارقات المضحكة، وتلك قصة أخرى.

وبعيدا عن الطرائف والمستملحات، حدث لي فعلا أن عرفت شخصا كتب عن “الإسلام” والدعوة إليه أطنانا من الكلمات، وفي الدّفاع عما يراه إسلاما “حقا” ما تعجز كلّ إبل الصّحراء عن حمل حروفه. غير أني اكتشفت مع مرور قليل من الزمان أنّ كل ما كتبه وفاه به، لا يعدو أن يكون عنده “مهنة” أو “تجارة” يسترزق بها بإذن الله ما شاء له الاسترزاق، ومن دون أن يمّس ذلك  في شيء  تفاصيل حياته اليومية، ومعاملاته الطافحة بكلّ أنواع المكر والرياء، أي بنقيض ما يدعو إليه وهو يخطّ على القارئ حروفه. وسمعت عن شخص آخر اشتهر بكونه من “أكبر” مسلمي هذا البلد العزيز، ومن أكثرهم ورعا وتقوى. لا يصبح إلاّ في المسجد ولا يمسي إلاّ فيه. تلتقيه، فيقدّم لك آخر ما تفتّقت عنه قريحته في نصح المسلمين وإرشادهم السبيل السوي، ثمّ يتلو عليك “آيات بيّنات” من الذكر الحكيم تحثّ على إيثار الذات والصدقة للمساكين، ويردف هذه “الآيات” بدون استئذان بـ”أحاديث نبوية شريفة”، قد تكون صحيحة وقد تكون مريضة، كلّها تطفح بحبّ الله، وكظم الغيظ والصّبر على الملّمات، ثمّ ينتقل بك دون إنذار لما رواه أبو هريرة وابن الأعرج عكرمة ومالك، في حسن السلوك، وشروط المسلم… يفحمك بكل هذه الدروس والوصايا، هو الذي لا يترك فرصة تمر دون أن ينمّي خزينته، ولو على ظهر فقراء المسلمين وضعافهم. يقضي كلّ يومه، وهو يداهن هذا وينافق ذاك، يكذب هنا وينصب هناك، ولسان حاله يقول: ” إنّ ربيّ لغفور رحيم”.

لا أدري ما سر هذه الهوة الساحقة عند بعض مّن يخالون أنفسهم أكثر إسلاما منا، هوّة ساحقة بين ما يفكّرون فيه، وما يعيشونه، بين ما يكتبونه وما يفعلونه، بين ما يخطبون به علنا فوق المنابر وأمام الكاميرات وفي الندوات المستديرة والمستطيلة، وما يوشوشون به سرّا من كوابيس في الكواليس وداخل الأندية المغلقة…

لا أؤاخذ أحدا على القول بفيه ما ليس فيه، ولست مؤهّلا لإعطاء دروس وعظ وإرشاد في شأن هذه الازدواجية المدوّخة، و لكن يكفيني أجرا أن أشير إليها جهرا مستعينا بقوله تعالى: “يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم”، صدق الله العظيم.

التعليقات على إلى حركة التوحيد والإصلاح..”يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم” مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…