عزالدين العلام

  في إحدى دراساته الممتازة، لاحظ الأستاذ عبد الله العروي تشابها كبيرا بين رجلين، الأول في الجنوب من ضفة البحر الأبيض المتوسط، والثاني في شمال نفس الضفة. الاثنان معا، كانا رجلي سياسة وفشلا في مسلكهما، والاثنان معا أبدعا في أفكارهما، وسلكا في تصورهما نهجا واقعيا منتقدين أحلام الفلاسفة وتأملاتهم، وحدود رجال الدين وادّعاءاتهم … و مع ذلك كان الفرق بينهما كبيرا والفاصل بينهما مصير حضارتين: الأول هو عبد الرحمان بن خلدون، والثاني هو نيكولا ماكيافلي. كتب الأول “المقدمة” دون أن يسمح له التاريخ بالدخول في صلب الموضوع، فظل كتابه يتيما بمنزلة “محضر” سجّل فيه الوقائع ليحفظ إلى الأبد في أرشيفات شرطة “التاريخ”. وكتب الثاني “الأمير” واستقبله “التاريخ” بالأحضان وحقّق له حلمه بتأسيس ما كان يطمح إليه.

لم يكن يفصل بين الرجلين أكثر من ثمانية عقود، ومياه البحر المتوسط، ومع ذلك، نطق “التاريخ” بحكمه على الاثنين، فكان الأول علامة على حضارة تهالكت وانقضت، وكان الثاني دلالة على حضارة انبثقت ونهضت. نفض ابن خلدون يديه من كل شيء وأحجم عن كل حلم مستقبلي لا يسعف ما عاينه من وقائع على تحقيقه، و شمّر “ماكيافلي” على ساعديه وآمن بقدرة الإرادة السياسية، فكان لقاء حلمه مع التاريخ ممكنا، بل و ناجحا .

مرّ الآن على وفاة هذين العلمين أكثر من خمسة قرون …و هاهي ذي أوروبا اليوم، سليلة الإرادة “الماكيافلية” (بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس بالمعنى المرذول) أسست دولها وأوطانها محققة حلم “الأمير”، بل وتجاوزته بدمقرطة هذه الدول وفصل السلطات وتفعيل “حقوق الإنسان”… و هاهو ذا العالم العربي لا يزال يراوح مكانه دون أن يحقق مهامه التاريخية، أو لنقل أنه حقق جزءا قليلا منها بشيء غير قليل من تشوه الخلقة، ودون أن يستطيع “قتل” ابن خلدون بتجاوزه لمجتمع “العصبيات” و”القبائل”، فظل بالتالي، كما كان صاحب “المقدمة”، محاصرا داخل تاريخه المسدود.

إنّ النظر في بعض تفاصيل هذه القرون الخمسة الأخيرة، يقوم دليلا عمليا على مصير حضارتين. وإليك أيها القارئ هذه الباقة من النتف المختارة، ولك أن تقارن وتستنتج.

حينما كان ماكيافلي يكتب “الأمير” فاتحا الطريق لتأسيس “نظرية الدولة” الحديثة، كان فقيهنا “ابن الأزرق” يجمع في كتابه “بدائع السلك في طبائع الملك” كل ما تعلّق بالاستبداد السلطاني. وفي الوقت الذي كان فيه كل من “لوثر” و “كالفن” يشرّعان للفرق الجدري بين “الإيمان” و”القانون”، كان الفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلي يؤلف كتابا بعنوان “ما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار”، كله سبّ و قّذف في كل من خالفه الديانة، وتذكير بما يجب على “أهل الذمة من الجزية والصغار وتنبيه إلى ضرورة منعهم من إحداث الكنائس…”. و في الوقت الذي كان فيه رجل اسمه “جون بودان” ينظّر ل”سيادة” الدولة الحديثة ويتحدّث عن “التسامح الديني”، كان في المغرب رجل اسمه “ابن أبي محلي”، يكفيني هنا، وأنا أتحدّث عن “التسامح”، أن أعرض عليك أيها القارئ مختارات من عناوين بعض مؤلفاته التي تحمل معها شحنتها ودلالتها، وهي “إصليت الخريت في قطع بلعوم العفريت النفريت”، و”منجنيق الصخور لهدم بناء شيخ الغرور ورأس الفجور”، و”سمّ ساعة في تقطيع أمعاء مفارق الجماعة”، و”السيف البارق مع السهم الراشق”…

وفي القرن السابع عشر، حين كان الفيلسوف الشهير”اسبينوزا” يدوّن تحفته “رسالة اللاهوت والسياسة” مسائلا النصوص الدينية ومنتقدا للمعجزات ومحللا للنبوة، وكان المفكر “جون لوك” يضع بدوره أساس الدولة الحديثة كتعاقد اجتماعي يحفظ الحقوق المدنية، كان المغرب يعيش “أزمة” كبرى بسبب انتشار استعمال “التبغ”، واضطرت الدولة إلى استصدار “فتاوى” شغلت رجال الفكر في المغرب، فألفوا في الموضوع ما يربو على الثلاثين كتابا لعلّ أهمها “نصيحة الإخوان في اجتناب الدخان” لصاحبه  “ابراهيم اللقائي”!

وفي القرن الثامن عشر، دشّنت فرنسا عصر “أنوارها”، وظهر “الأنسكلوبديون”، من “ديدرو” إلى “فولتير” مرورا بـ”دالامبير” و”هلفسيوس” و”دولباخ”، مدافعين عن “العقل” ومؤمنين بالإنسان ومطالبين بالإصلاح. وقتها كان المغرب يغطّ في نوم عميق، وظل فقهائه يجرّون من ورائهم سيلا، بل أسمالا، من الاستشهادات النصية التي لاتسمن التاريخ ولا تغنيه.

وفي بداية القرن التاسع عشر، وبينما كان المفكر والفيلسوف الشهير “فريدريك هيغل” ينهي “محاضراته في فلسفة التاريخ”، ويضع اللمسات الأخيرة لكتابه “فينومينولوجيا الروح”، كان هناك في المغرب أديب ومؤرخ شاءت الأقدار أن يتوفى مثله مثل “هيغل” سنة 1830، وهو “أبو القاسم الزياني”  الذي كان يتحدّث في مدوّنه التاريخي المعروف ب “الترجمانة الكبرى” عن “جزيرة القرود” حيث كان هناك “قرد” عادل، يحكم رعاياه من القرود بالعدل وما أنزل الله، فعمّ جزيرة القرود هاته الأمن والرفاه والبنين. وطبعا فيما عدا تطابق سنة الوفاة، لا شيء يجمع بين “هيغل” و”الزياني”غير الخير و الإحسان.

وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا طيلة القرن التاسع عشر تشهد انتفاضات اجتماعية وسياسية متتالية، بدءا من ألمانيا سنة 1830 إلى “كومونة باريس” سنة 1871 مرورا بما عرفته عامة أوروبا سنة 1848، وفي هذا الوقت الذي كانت فيه الحركات النقابية والاشتراكية والفوضوية تعرف انتشارا متزايدا نتيجة احتداد الصراعات الطبقية، وما صاحبها من انتشار الفكر الاشتراكي بفضل مفكرين أمثال “ماركس” و”برودون” و”باكونين” … كان المغرب لا يزال يعيش على إيقاع الفقيه “أكنسوس”، وهو يتحدّث عن الإمامة وشروطها وطاعة أولي الأمر، و”المشرفي “، وهو يردّد بدون كلل فضائل العدل، و”الناصري” وهو ينتقد إلى حدّ الشتم “الحرية” التي أحدثها “الإفرنج” معتبرا إياها “زندقة”…

ومع بداية القرن العشرين، وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تسارع الخطى نحو التقدّم الاقتصادي والتقني والإكتشافات العلمية، كان المغرب يتساءل مشدوها فيما إذا كان “خبر التلغراف” يُعمل به في الأمور الدينية أم لا، وهو ما اضطرّ معه فقيهنا “ابن عبد السلام الطاهري” إلى تأليف نص مطول بعنوان “كمال الاعتراف بالعمل بالتلغراف”. كما كان النقاش حارا حول ما إذا كانت “الأوطمبيل” وما شاكلها من السيارات الحادثة هي “الدابة المنتظرة” التي جاء بها الذكر الحكيم في قوله تعالى “وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلّمهم” مما اضطر معه الفقيه “ابن أحمد العلوي” إلى تحرير فتواه حول “خروج الدابة”.

لنقف عند هذا الحد، ولنختم بالقول إنّ المرء يجد نفسه حائرا وهو يستقرئ مثل هذه المعطيات وغيرها كثير. لا أدري، هل نحمد الله و نشكره على وصول بعض الشظايا من  شمال “المتوسط” إلى جنوبه، مما ساعدنا على مساءلة يقيننا والاستفاقة من سباتنا. ولا أدري أيضا، هل نحمد الله ونشكره مرة أخرى على ما حققه المغرب في هذه السنين الأخيرة، بما لها وما عليها، ودون أن يكون قي تاريخه الحافل بالمفاخر والأمجاد ما يمكن الاستناد عليه للسير إلى الأمام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات على مسارهم و مصيرنا!! مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…