سليمان الريسوني

ما الذي يعنيه حدث سقوط مئات التلاميذ، في مارس 1965، بالنسبة لشاب ازداد سنة 1996؟ ما الذي يهمه في أن جنودا عبثوا بقصر الحسن الثاني في يوليوز 1971، وأن بعض هؤلاء الجنود زُج بهم في واحد من أفظع سجون القرن العشرين؟ وكيف يمكن إقناع هذا الشاب بأن يطالب ادريس لشكر بالوفاء للمهدي بنبركة، وحزب الاستقلال بالاعتذار للشوريين؟

لا يتعلق الأمر بالذاكرة، كما قد يقفز إلى الذهن في الوهلة الأولى، فما أنتجه صدر الإسلام من أفكار وأحداث، يعني لهذا الشاب، وإن بشكل مشوش، أكثر مما يعنيه له استقلال المغرب في 1956.. كما أن السحر الذي قد يمارسه عليه المسار الكروي للعربي بن امبارك، لا يمكن مقارنته بتأثير المسار النضالي للمهدي بنبركة فيه! في استطلاع رأي سئل شاب عمن يكون المهدي بنبركة، فأجاب على الفور: هو أقدم دولي مغربي في كرة القدم!

الأمر، كما يبدو، لا يتعلق بالذاكرة، مهما بدت مشوشة. فبمَ يتعلق يا ترى؟ بـ”المعنى”. يتعلق بالمعنى الذي تعطيه تلك الأفكار والأحداث والألعاب.. في إطار”عودها الأبدي”؛ فالأجوبة الدينية الميدانية، “النقية”، التي تنقلها إليه وسائل الإعلام المُعولمة، يوميا، من سوريا والعراق وليبيا.. عن فشل كل المشاريع السياسية، بما فيها المشروع الإخواني، وعن النجاحات “الجهادية”، تجعله يضع فونتازم الجهاد فالاستشهاد المؤدي إلى الجنة، كحلم احتياطي، يستدعيه الشاب حالَما يفشل في تحقيق فونتازم التحول إلى لاعب كرة قدم في الجنات الأوروبية! الحياة أو الموت.

الإجابات السلفية تشبه، في مانويتها، نتيجة مقابلة في الكرة، حيث فريقان يتواجهان، والنتيجة: غالب ومغلوب. التأويل السلفي للدين والدنيا، لا مجال فيه للتدافع، والتناوب، والنسبية… هناك دائما فريقان: واحد في الجنة والثاني في النار.

مرة سألت الشيخ الفيزازي: هل تقبل بحكم العلمانيين في المغرب إذا اختارهم الشعب؟ فأجاب: أفضل الذهاب إلى جزر القُمر على القبول بهم. مؤخرا، عدت أسأله عن “البارصا” وعن النجم ميسي، وقد كنت أعرف أن إعجاب الشيخ به وصل حدَّ إصراره على أخذ صورة معه في إحدى زيارات ميسي إلى طنجة، فأجابني: “ما زال حبي لـ”البارصا” ثابتا، أما ميسي فقد أعرضت عنه، بعدما علمت أنه صهيوني”. الشيخ الفيزازي طبعا، بحكم كيميائه الفكري، لا يمكن أن يدرك أن فعل كرة القدم المعولمة، في علاقتها بالمال والسياسة، تفعل في الإنسان من الاستلاب والتنميط والتدمير الثقافي والفكري.. نفس أفاعيل الصهيونية فيه.

“المعنى” الذي يمارس سحره على الأجيال الجديدة (أجيال الأفكار والأعمار) هو معنى تقني، فرجوي، غير مركب ولا جدلي: معنى ” fast food”، يتميز بالسرعة والاختزال والتبسيط. كما أنه “معنى”  لا هوية له؛ يلتقي فيه السلفي المسلم، مع اليميني المسيحي، واليميني اليهودي.. على أرضية العولمة النيوليبرالية، التي تُعتبر كرة القدم الحديثة، ومنطقها المانوي المسطح: فوز- خسارة، أحسن معبر عنها، خصوصا في لا إنتاجها لأية قيمة عدا “قيمة” الفرجة.

بأي معنى أصبحنا نتلقى يوميا، بحياد، إن لم يكن بشغف، عشرات الصور عن القتل والدمار؟ بأي معنى نصبح اليوم شيعة لأن حزب الله هاجم إسرائيل، ونرتد غدا إلى “داعش” لأنها استهدفت حزب الله؟ نحب الدور السعودي في “المسلسل” السوري، ونكرهه في “الفيلم” المصري؟

في روايته “خفة الكائن التي لا تحتمل” (“l’insoutenable légèreté de l’être”)، يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا، في سياق حديثه عن فكرة “العود الأبدي” (“L’éternel retour”) للفيلسوف الألماني نيتشه: “منذ زمن ليس ببعيد باغتني شعور غير معقول: كنت أتصفح كتابا عن هتلر فوجدت نفسي متأثرا أمام بعض صوره. ذكرتني بزمن طفولتي التي عشتها خلال الحرب. كثيرون من أفراد عائلتي لاقوا حتفهم في معسكرات اعتقال نازية. ولكن ما أهمية موتهم أمام صورة هتلر التي ذكرتني بزمن غابر من حياتي، بزمن لن يعود؟ إن هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم لعالم مبني أساسا على انعدام العَود (le retour). ذلك أن كل شيء في هذا العالم مغتفر سلفا وكل شيء مسموح به بوقاحة”.

لنأخذ مثالا من الواقع المغربي: إن الصورة التي نقلها طبيب العائلة الملكية السابق، فرانسوا كليري، في كتابه “le chevale du roi” عن أن أوفقير قدم للحسن الثاني رأس المهدي بنبركة في طبق.. ومثيلاتها من الصور المدهشة، التي تنقلها الصحافة يوميا عن التاريخ المغربي الحديث، تهم الشاب المزداد سنة  1996 أكثر مما يهمه حدث اغتيال بنبركة، في ذاته، بالرغم من أن ذلك الحدث مازال أثره مستمرا في الحاضر. بل إن تلك الصور والحكايات، الخالية من المعنى، ينسحب سِحرها حتى على الأجيال التي عاشت في مرحلة كان لفكر المهدي بنبركة، وأمثاله، معنى!

التعليقات على هل أصبحنا نعيش بدون معنى؟ مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…