“حكاية صحفية”.. زاوية نسعى من خلالها إلى استعادة وقائع ومواقف مفارِقة أو مفاجئة أو صعبة.. حدثت لصحفيات وصحفيين مغاربة خلال مسارهن ومسارهم المهني. يحكيها كل يوم زميل أو زميلة على موقع “الأول”

20170621_015136[1]

عبد العزيز كوكاس

جئت إلى الصحافة في اللحظات الأخيرة لإدريس البصري، بين قمة مجده السياسي حين رقاه الحسن الثاني إلى مؤسسة دستورية في بلاغ الديوان الملكي الشهير ليوم  11 يناير 1995 والذي تحول بموجبه إلى وزير دولة مقدس، وبين بداية العد العكسي لانتحاره السياسي مع بداية الألفية الثانية.. كنت قد التحقت بتجربة “الصحيفة” في إبان انطلاقها في يناير 1999، في اللحظة الأولى كنت مستشارا لجريدة “الزمن” التي كان يديرها الصديق عبد الكبير العلوي الإسماعيلي، حيث كلفني بحضور اللقاء التاريخي لاتفاقية فاتح غشت 1996، كان ذلك أول لقاء ميداني لي مع كبار رؤوس السياسة في المغرب، نوبير الأموي، عبد الرزاق أفيلال ومحمد عبد الرزاق عن نقابة الاتحاد المغربي للشغل وإدريس البصري وكبار مهندسي وزارة الداخلية والعديد من الوزراء… في نهاية توقيع الاتفاق التاريخي الذي بموجب عزل الحسن الثاني الأحزاب السياسية عن أذرعها الاجتماعية، تقدم البصري ببشاشة للسلام على الصحافيين، كنت الثالث في الصف، حين وصل إلي وضع يده على كتفي، طبطب علي، وهو يقول بفرنسيته المعهودة :”بونجور بون أوم  bonjour bon homme” قالوا لي أنت هو الصحافي أبو أحلام، مزيان.. تبارك الله عليك، قلمك تيبان لي منجور مزيان”.

كل هذا الكلام مر في لمح البصر، لكنه بدا لي مثل حوار طويل، كأن الزمن توقف للحظة تحت أضواء الكاميرا والمصورين الذين ازدحموا حولنا، كانت هناك حيرة قوية بين هذا الرجل الذي تلامس يده ملكا عظيما جمع بين الرهبة والخوف في قلوبنا كجيل، وبين ذات اليد التي تبدو ممتلئة بالكثير من دماء الأبرياء، لكن أصدقكم القول إني أحسست بشعور ملتبس لكني اعتبرت اللقاء فأل خير على مساري الصحافي.

في بداية أكتوبر 1999، أنبأني أحد مصادري التي كانت أخبارها دوما تمتلك مصداقية قوية، وهو بالمناسبة وزير اليوم في حكومة سعد الدين العثماني، ليلفت انتباهي إلى صدور مقال في صحيفة “دير شبيغل” الألمانية حول قرار مهم سيعلن عنه الملك الشاب مرتبط بمحاولة كسر سلطة وزير الدولة في الداخلية، استقصيت معلومات من مصادر متطابقة وكتبت مقالا أشير إليه في الصفحة الأولى من العدد 45 الصادر يوم 15 أكتوبر 1999        تحت عنوان:” إدريس البصري وحكومة التناوب، وزير في المنزلة بين المنزلتين” جمعت فيه معطيات كثيرة، استخلصت من خلالها أن أيام إدريس البصري أصبحت معدودة وأن الملك سيقيل الوزير النافذ، وكتبت بالحرف: ” هل وصلت السلطة السياسية إلى ضرورة تسوية الأوتار ليعزف الكومبارس الحكومي على نغمة واحدة؟ ومن هو هذا الرجل الذي ارتفعت مكانته إلى مرتبة مقدسة والذي لم يصل من خلاله تناوب 94 حين خلف عبد اللطيف الفلالي نفسه في إطار التناوب الذاتي على الحكم على حد تعبير فرانسوا سودان، من هو هذا الرجل الذي ظل يضع الملح حين يكون السكر هو المطلوب”، وبعد رسم أول بروفايل لوزير الداخلية إدريس البصري، قدمت معطيات تفيد نهاية زمن إدريس البصري جد وشيكة واستدللت على ذلك بما توفر لي من معطيات، لكني كنت حذرا من الاستنتاجات اليقينية ليس لأن السياسة ليست من العلوم الدقيقة، ولكن لأن المخزن بالمغرب له منطق عجيب وهو: “إذا صحت المعلومة نفينا الواقعة كليا”.

20170621_015124[1]

يوم الجمعة الموالي الذي صادف صدور العدد، كنت بقاعة التحرير بـ”الصحيفة”، مع بضعة زملاء لي، فسمعنا هرجا ومرجا قادما من المصعد في الطابق الثامن ببناية مركز إيمان بشارع الجيش الملكي بالدار البيضاء قرب مقر البورصة اليوم، أشخاص ببدلات سوداء، يحيطون بشخص يسمع صراخه من بعيد، وفجأة أطل إدريس البصري بطلعته وأشار أحد العاملين بميديا تروست (الشركة التي كانت تصدر “لوجورنال” و”الصحيفة”) يومها إلي، فأصبت برجفة عميقة، حيث توجه وزير الداخلية إلي بالتهديد والوعيد، وهو يلفظ اسمي خطأ: “اسمع أهذاك كوساس.. أتفوتني والَّلا راه ما غيجبك حال”.

قبل أن يخرج بو بكر الجامعي من مكتبه، ويستقبل وزير الدولة في الداخلية الذي كان في قمة غضبه، ويدخله إلى مكتبه.

تجمدت الدماء في عروقي، قلت في نفسي إنها نهايتي.. بشكل درامي توقعت الأسوأ، ولم يخفف من الرعب الذي اجتاحني، سوى قفشات زملائي في “الصحيفةّ الذين بدأ البعض يتحدث عن بطولتي ودخولي أبواب التاريخ، وأنهم سيدلون بتصريحات للصحف الدولية بعد اعتقالي ليؤكدوا قربهم مني وينسجوا قصصا خيالية ليزيدوا من فروسيتي، فيما آخرون بدأوا يسألونني عن الأشياء التي أحب أن يحملوها إليَّ في قُفف الزيارة أثناء تواجدي بعكاشة، اجتاحتني مشاعر متناقضة، ذلك الضعف الإنساني الذي يجتاح المرء في مواقف الرعب، وكيف ينجح في تهريب اللحظات السعيدة ليخبئها عن الأعين لوقت الحاجة، وذلك الفخر البطولي الذي كان يحسه الفرسان النبلاء وهم يدافعون عن قيم البطولة والشرف فاتحين صدورهم للموت.. وحدهم المحاربون في حالة الخوف والقلق يعرفون معنى غضب الدم وهدير أمواجه.. لكن صدقوني أنني في لحظات التهديد تلك كنت أفكر في تفاصيل صغيرة في حياتي اسمها الحب والجمال ومتعة القراءة التي سأحرم منها بعد أن أصبحت أنا المدعو كوساس، في المنزلة بين المنزلتين.

20160902_141230

التعليقات على يوم اقتحم البصري مقر “الصحيفة” وهددني: “تفوتني ولا ما يعجبك حال” مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…